لاشك ان التسامح حينما يرافق التوجه فإنه يضفي إليه صبغة الارتقاء ويفضي إلى التقارب كذلك يسهم وبشكل فاعل في انحسار حدة الخلاف، مسطراً المودة ومؤطراً اللفة من خلال الاحتواء الأمثل عبر استيعاب وجهات النظر بحيادية وبلورتها لتصب في سياق المصلحة، مسألة اختلاف وجهات النظر لاتعد مؤشراً سلبياً بقدر ما تشكل أنماطاً مختلفة في المجتمع الواحد على اختلاف الأساليب، ولاريب ان التسامح نابع من كرم النفس فتجد المتسامح يحذف الجوانب القاتمة من الذاكرة ويتيح للصفاء والنقاء حيزاً يرضي به ضميره غايته بذلك نيل رضا رب العباد ورحمته، وطموحه العيش بشرف هذه الطاعة ليجسد هذا السلوك اضاءة تنير بها طريقه وتأخذه الى حيث الفلاح في الدنيا والاخرة. الحياة لاتخلو بحال من الاحوال من المنغصات والمشاكل غير ان هؤلاء الصالحين الشرفاء لايلبثوا ان يمارسوا ادوارهم الايجابية الخلاقة حينما يشكلون بصفاء قلوبهم اسساً تحمل القيم الجميلة ليكونوا قدوة للاخرين في انتهاج هذا المسلك المشرف، وغالباً ما تتشكل حالات الزعل جراء مواقف معينة وترتبط في حالات الغضب فتجد من هو سريع الغضب أو كما يقال (عصبي) وتجد من هو بطيء الغضب أو (وسيع صدر) كما يحلو للبعض أن يسميه، ومحور الارتكاز في هذه العملية هو التحكم بالمشاعر ومسألة التحكم ترتبط بعوامل مؤثرة في هذا الجانب، وأبرزها بلا ريب التمالك، وهي أن يملك الإنسان نفسه في هذه الناحية لا أن يفقدها، وتحقيق التوازن في حالة هذا الشعور لايجلب الراحة لمحققها فحسب، بل هو نبل الذات وسمو الأخلاق وصفاء الروح ليحلقوا معاً في سماء صافية، مؤثرين المحبة والرفعة وضاربين أروع الأمثلة في بعد أخلاقي تكسوه الطمأنينة وتشبعه روح المحبة انطلاقاً من مبدأ العفو عند المقدرة والتسامح في وقت الشدة، غير ان اسوأ مافي الأمر حينما يخفي الإنسان حنقه وغضبه في داخله ليتحول بالتالي إلى شعور داخلي مؤذٍ لصاحبه باستثارة الجانب العدائي في النفس وشحنها بهذه الطاقة الموغلة في القسوة ، فيحمل القلب الضغينة للشخص المتسبب سواء قصد أم لم يقصد بصيغ يتفاوت مدى حجمها وتأثيرها بتفاوت الأثر النفسي، بل إنها قد تنمو وتترعرع لتتضخم تدريجيا بوتيرة قد تبدو بطيئة إلا أنها قاتلة وفقا لتمردها وسحقها للفضيلة وسيطرتها على الأحاسيس، ومن ثم فإن هذا التأثير سيؤسس لبيئة الانتقام بمجرد أن تسنح فرصة مواتية للنيل من هذا الشخص بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد تكون تلقائية لأن رد الفعل مهيأ مسبقا للرد وهذا يعد من أسوأ أنواع السلوك، ذلك أن القلب الخالي من ذكر المولى قام بتخزين هذا الكم من الغل والذي تحول وبفعل التراكمات السلبية السيئة إلى حقد والعياذ بالله ليتحول إلى طاقة سلبية عدائية تستمرئ الخداع وقد تختلف أساليب الرد من شخص لآخر ومن موقف إلى غيره وفقا لطبيعة الفعل ولأن التبييت لإلحاق الضرر غالبا ما يكون أشد وطأة من الضرر التلقائي. وقفات النفس تتم بشكل يومي وبكثرة، فمنها ما يكون عابراً ويمر مرور الكرام، ومنها ما يستقر في النفس أياما بل شهوراً، وهذا النوع هو الأدهى والأخطر في ذات الوقت، ولاشك ان من اثاره اصابة العلاقات الاجتماعية في مقتل ويشكل إهدار الطاقة واستنزافها على هذا النحو الذي لا يليق حجر عثرة أمام سلامة القلوب فضلا عن صفاء النفوس. ويجدر في هذه الحالة أن يضع حدا وأن يضغط زر المسح في العقل ولا تأخذ هذه العملية غير قرار صائب وحكمة جلية حاضرة، ان التهيئة النفسية والاستعداد المعنوي للجرأة الخلاقة لمسح الضغينة واستبدالها بالصفح والعفو يظل بيت القصيد، العفو من شيم الكرام وإتاحة الحيز الأكبر لإشاعة الحب في القلوب والتآخي، والأمر الآخر هو ألا يسكت الإنسان و(يشيل) في قلبه، بل يفصح عما يجول بخاطره، بل قد يشكل هذا الأمر تكوين الاحترام المتبادل بين الطرفين ليأخذ النقاش افاقا ارحب عمل الخير ينعكس على وجه فاعله فتجده بشوشاً تنفرج أساريره بابتسامة حافلة بمعاني الحب والود والعطاء، لذا يُقال دائماً عن هؤلاء الأخيار(وجهه سمح)، وما هذا العنوان الصادق إلا ترجمة بليغة لما يدور في داخله من إضاءة تنعكس تلقائياً على قسمات وجهه المشع بنور قوة الإيمان، ولا يهنأ من دماثة خلقه من يقابلهم فحسب، بل شعوره بالطمأنينة والسكينة فهو مطمئن لأن هناك قوة خارقة تثبِّت هذا الاطمئنان، وهي كما أسلفت الثقة بالله وقوة الإيمان، وهذه القوة التي بوسع كل ذي لب أن يتسلَّح بها لا تتطلَّب من الجهد والعناء الشيء الكثير بقدر ما تتطلَّب قلبا سليما وموائمة بين المفروض والمنطق والواقع، فإن خالفت المفروض فإنك ستُحاصر المنطق في زاوية من الضيق ما يجعلك بشكل أو بآخر أسيراً لهواك تبعاً للمخالفة تلك وليس آسراً له. روى البخاري وابن ماجة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى.