تشكو اللغة العربية من غربة قاسية بين أهلها، ومن أزمة يصفها بعض الباحثين المغاربة بأزمة احتضار، وعلى هذه الغربة والأزمة دلائل لا تحصى. من هذه الدلائل أن المثقف العربي، في الأعم الأغلب لا يجيد لغته. فهو يلم بها ذلك الإلمام اليسير الذي لا يسمح له بالقول إنه يعرفها كما يعرف المثقف الانجليزي، على سبيل المثال، لغته. أما الطالب فليس أفضل حالاً من هذا المثقف. فهو يدرسها في المرحلة الثانوية ويتخرج منها دون أن يظفر بمعرفتها تلك المعرفة المقتضاة، وإذا تابع دروسه الجامعية، سواء في كلية الآداب واللغة العربية أو في أي كلية أخرى، فإن حظه لن يكون أفضل. فالعربية تظل بالنسبة إليه، وهو العربي الخارج من رحمها، لغة مجهولة تغلفها الأسرار، وعصية على الفهم والاستيعاب. وليس حتماً أن يكون أستاذ اللغة العربية في الثانوي بأفضل كثيراً من طلابه، فقد يكون متقدماً عليهم بعض التقدم ولكنه لا يعرف الكثير من دقائق العربية التي يدرّسها لطلابه دون جدارة. فإذا وصلنا إلى أستاذ اللغة العربية والأدب العربي في كلية الآداب راعنا مدى غربته عن لغته الوطنية التي أوكل إليه أمر تدريسها استناداً إلى شهادة دكتوراه يحملها وتجيز له بالطبع أن يدرّس ويحاضر بها. ولكنه في واقع أمره لا يعرفها كما كان يعرفها طه حسين ومصطفى عبدالرازق وأمين الخولي وعزالدين إسماعيل وعبدالقادر القط وأحمد هيكل وسواهم ممن كانوا في عداد الكادر التعليمي في كليات الآداب المصرية قبل خمسين سنة أو أكثر. ويكفي للتأكد من جهل هذا الأستاذ الذي يدرّس العربية وآدابها في الجامعة بلغته العربية إعطاؤه قصيدة غير محركة للمتنبي أو لسواه من شعراء التراث العربي والطلب إليه قراءتها بصوت عال وتحريكها. فعلى الفور يتبين لنا أنه لا يعرف تحريك كلماتها ذلك التحريك الصحيح، كما لا يستطيع شرح الكثير من أبياتها أو معاني هذه الأبيات. لقد وقع في شر خطير لم يتوقع أن يقع فيه البتة. وقد لا نبالغ إذا زعمنا أن تحريك جبهة الجولان السورية، زمن الأسدين، وعلى صعوبة هذا التحريك أو استحالته بالنسبة إليهما، أسهل من تحريك هذا الأستاذ الجامعي قصيدة للمتنبي وشرح معانيها بدقة. وهذا إن دل على شيء، فعلى ضعف أو انعدام الرقابة في جامعاتنا العربية على ملف هذا الأستاذ ومقدرته وكفاءته. ولأن الرقابة منعدمة، فلماذا الاهتمام بالتحريك وعدم إجادته أصلاً؟ وقد لا يكون عميد كلية الآداب الذي يفترض فيه السهر على أحوال كليته وحال اللغة العربية فيها بأفضل من أساتذة هذه الكلية. فقد اشتركت مرة في ندوة عن الأدب العربي في أحد الأقطار العربية، حاضر فيها في مَن حاضر، عميدة كلية الآداب في البلد الذي دعا إلى هذه الندوة. كان كل سطر من محاضرتها (وكانت محاضرة مكتوبة) يتضمن أربعة أخطاء في الصرف والنحو أو أكثر. وعلى العموم لم يخل سطر واحد من خطأ نحوي أو صرفي ما جعل الحاضرين، وكلهم من كرام القوم في الجامعات العربية، يحدّقون ببعضهم البعض، ولا يصدقون أن هذه السيدة التي تقرأ محاضرتها، هي فعلاً عميدة كلية آداب، بعد انتهاء المحاضرة وفتح باب النقاش، وقف أكاديمي عربي ووجه ملاحظات قاسية «للعميدة» التي كانت تستمع إلى ملاحظاته وهي تضحك.. وبعد المحاضرة ذكر لنا زميل لها في الكلية انها ليست هي التي كتبت ما تلته في الندوة، بل شخص أعد لها النص، ولكن سواء هي التي أعدت النص، أو أعده لها سواها، فإنها لا تعرف كما جزم تحريك جملة واحدة، وقد لا تستطيع تأليف صفحة كاملة تأليفاً سوياً. وبعد ذلك نسأل عن أحوال اللغة العربية في المدارس والجامعات. على أن هذا الوضع المريع الذي نتحدث عنه في مدارسنا وجامعاتنا، وعند المثقف العربي المعاصر، وأستاذ اللغة العربية في الثانوية وفي الجامعة، بنوع خاص، ليس وضعاً مستجداً تماماً في بيئتنا العربية اليوم، فهو قديم نسبياً ويرقى إلى حوالي مئة سنة من اليوم. إنني أذكر، وأنا صغير، أنني قرأت في بعض كتب المطالعة التي كان أساتذتنا يوصوننا بقراءتها، قصيدة للشاعر اللبناني حليم دموس موضوعها جمال اللغة العربية وتعلّق الشاعر (وهو ابن زحلة جارة الوادي) بها، وعتبه على أهلها الذين أهملوها، ومن بين هذه القصيدة التي أحفظ بعضها إلى اليوم، يرد: «أنا لا أهوى سواها/ ما لقومي ضيّعوها/ فدهاها ما دهاها». فضياع اللغة العربية عند أهلها ليس ضياعاً مستحدثاً إذن، وما دهاها يعود على الأقل إلى مئة سنة من العصر الحديث، إذ لا يعنينا الآن الحديث عن انهيار اللغة العربية في القرون الوسطى، أو زمن التتريك وما دهى اللغة العربية زمن الامبراطورية العثمانية. وإنما الذي يعنينا بالدرجة الأولى هو القرن العشرون وصولاً إلى وقتنا الراهن. فإذا بدأنا بهذا القرن وبحثنا عن الاهتمام العام بأمر العربية وترقيتها وتطويرها وتسهيل تعليمها وتحديث قواعدها، لم نجد شيئاً يذكر تقريباً. فلاشك أن للقرآن الكريم دوره الأول في حفظ العربية وفي عدم تحول العاميات العربية إلى لغات مستقلة من نوع ما حصل في أوروبا عندما انحطت اللغة اللاتينية وضعف أثرها وتداولها، فورثتها بناتها المنبثقة أصلاً منها، كالفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتغالية وسواها. وهكذا نجد أن «القوم» - أو قومنا على الأصح - ضيّعوا العربية منذ زمن بعيد، وعندما ضيّعوها دهاها ما دهاها، مما لا لزوم للتفصيل فيه لأنه معروف بما فيه الكفاية. ولم يكن حليم دموس وحده في اللوم والعتب، فمن يقرأ ما ورد حول اللغة العربية في تراث شعرنا المعاصر يجد ما لا يحصى من قصائد الغزل باللغة العربية، ومن قصائد العتب والشكوى من الهوان الذي وقعت فيه على يد أهلها. فكأن الشعراء لا يختلفون في توقع الخطر أو الضرر عن كثير من المخلوقات الأخرى التي تتنبه قبل سواها من المخلوقات الأخرى للخطر القادم. فها هو حافظ إبراهيم يقول على لسان اللغة نفسها وهي تعتب أو تشكو ما رأت أنه أصابها على ألسنة أبنائها من متكلميها: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي أو كالذي قاله مطران: تقول لأهلها الفصحى أعدل بربكم اغترابي بين أهلي أنا العربية المشهود فضلي أأغدو اليوم والمغمور فضلي؟ من حق أي قارئ لهذه العتابات أن يصفها بأنها «أقوال شعراء» وخيالات مبدعين أنطقوا ما لا ينطق، ونسبوا القول إلى ما لا يقول.. ومع ذلك فإن من السهل في المقابل أن يوجه الوصف نفسه إلى كلام دعاة الاتهام - اتهام اللغة - بالقصور إذ لا تختلف لغة هؤلاء، مع ادعائها العلمية والموضوعية، عن لغة أولئك، أي عن لغة الشعراء. وإذا كان الشعراء قد أنطقوا اللغة ونسبوا إليها كلمات العتاب والشكوى، فإن دعاة اتهامها بالقصور والضعف والجمود قد فعلوا الشيء نفسه، إذ صوروا اللغة جهازاً عاقلاً مالكاً أمر نفسه، وأنه كان بوسعه أن ينهض ويستوعب ويحيط بكل ما تفرض عليه الاحاطة به وتسميته أي أن يطوّر نفسه بنفسه في عملية يبدو الخيال فيها أبعد كثيراً مما انتهت إليه أخيلة الشعراء. ولكن أمر اللغة في واقعه هو بيد أهلها الناطقين بها. فعلى هؤلاء وحدهم تقع تبعة التنبيه للأخطار والتحديات التي تواجهها. وإذا كان الشاعر قد تنبه قبل سواه، ثم نبه الآخرين، فلأنه منذ القديم، مارس مثل هذا الدور إذ كان قائداً بين قادة قبيلته، كما كان الناطق الرسمي باسمها أو وزير إعلامها بلغة اليوم. وسواء سلم له اليوم شيء من رتب ومراتب الزمن القديم أو لم يسلم، فإن حديثه عما كان ينتظر اللغة العربية من الكوارث، والفجائع، كان حديثاً في محله. ويكفيه فخراً اليوم أنه الوحيد تقريباً في قبيلته أو في جماعته أو مجتمعه الذي يجيد الصرف، والنحو، ويحسن تحريك الكلمات، ويشرح الشعر والنثر في وقت فقد فيه كل ذلك أساتذة الثانوي والجامعي بمن فيهم العمداء على النحو الذي رأينا!