لا شك في أن اللغة الإنكليزية أصبحت سيدة هذا العصر، فهي لغة المال والأعمال، والسياحة والسفر، والإنترنت والإعلام، وهي لغة القوة، والقوة لله. لكن الغالب – كما ذهب ابن خلدون – يتبعه المغلوب، والانبهار الحضاري وسيطرة الغالب تقتضي رد الفعل، والحفاظ على الذات والهوية، خصوصاً من العرب الذين أكرمهم الله بالمعجزة الخالدة التي جاءت بلسانهم. ونحن في المملكة بالأخص انطلقت العروبة من وطننا، ونزل الوحي بلغتنا، فواجبنا أكبر ومسؤولياتنا أكثر. وعلى رغم أن اللغة الإنكليزية باتت تهدد الواقع اللغوي والهوية الوطنية لكثير من دول العالم اليوم، حتى المتقدمة منها كفرنساوألمانيا، فإن الوعي بمفهوم التعلم الإيجابي، والتنبه للمخاطر يجعلان من تعلمها في تلك البلاد عاملاً إيجابياً في كثير من الأحيان. فقد كانت تجربة هاتين الأمتين في التصدي للذوبان اللغوي في القرنين الماضيين ناجحة بكل المقاييس، ومن ثم أصبح الوعي بمخاطر الذوبان في الإنكليزية في الوقت الراهن، وكيفية الأخذ من الآخر بما يخدم الواقع ولا يضر المجتمع، ظاهرة تستحق الالتفات إليها والإشادة بها والاستفادة منها. ففي فرنسا، وبعد سيطرة الألمان في حرب السبعين، نجد أن الأدب الفرنسي يشارك بقوة في الذود عن لغته، وها هو ذا ألفونس دوده في قصته «الدرس الأخير» – كما يرويها الشيخ علي الطنطاوي - يحكي عن صبي مستهتر من «الألزاس» يذهب صباحاً إلى مدرسته، فإذا به يرى الناس يسرعون السير في الشوارع، مصفرة ألوانهم، تبدو عليهم امارات الذعر والألم، وإذا هو يرى الأستاذ يذهب ويجيء في باحة المدرسة، قلقاً مضطرباً. وقد قعد بعض أهل القرية على مقاعد الصغار، واجمين شاخصين، فانسل إلى مكانه متحيراً لا يدري ما الخبر، وإذا بالأستاذ يعلو المنبر، ويقول بصوت مرتجف ورنة حزينة كأنها رنة بكاء مكتوم: أولادي: هذه آخر ساعة أراكم فيها، ثم نفترق إلى غير تلاق! لأن بلادكم قد احتلها الألمان! وصارت دروسكم باللغة الألمانية فلا فرنسية بعد اليوم! وخنقته العبرات فما استطاع أن يتم كلامه، فعاد يقول: والآن: اصغوا لي لألقي عليكم الدرس الأخير باللغة الفرنسية، وقم أنت يا فلان قال الصبي: فما سمعت اسمي حتى ارتجفت ووقفت ساكتاً، ولم أكن قد حفظت درسي، فقال لي الأستاذ: اقعد، أنا لا أعنفك ولا أعاقبك، ولكن اعلموا، اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم وسلمتموها إلى عدوكم بإهمالكم لغتكم! إن الحديث عن تجارب الأمم الأخرى يعود إلى أن الاهتمام بتعليم اللغة الإنكليزية على حساب اللغة العربية أصبح ظاهرة مفزعة، لا يمكن لها أن تهدد الواقع اللغوي المحفوظ بالقرآن الكريم والشريعة، لكنها بدأت – بالفعل - تمارس دورها في العالم العربي بأسره في تهديد الهوية. ومن هنا تتجلى ضرورة الوعي بأن تعلم اللغات الأجنبية ضرورة حضارية لتنمية الإنسان والوطن، لا ضرورة إقصائية للهروب من ثقافة إلى أخرى. وعلى المتعلمين والقائمين على التعليم أن يسيروا وفق هذا المفهوم، وأن يدركوا أهداف تعلم اللغة الأجنبية ويؤمنوا بها، حتى يثمر هذا التعليم، فيكون عامل بناء لا عامل هدم في جذور الوطن وهوية المواطن. والإقدام على لغة الحضارة القائمة واقع تاريخي لا مفر منه، فحضارة الإسلام في العصر العباسي قامت على ترجمات كتب الحضارات السابقة عليها، ولكن قوة الهوية جعلت من العناصر الأعجمية الوافدة جزءاً لا يتجزأ من عروبة الأمة، والشعراء والأدباء والعلماء المستعربين، أمثال بشار بن برد وأبو نواس وابن المقفع وسيبويه والفيروزآبادي والبخاري، وغيرهم أكبر دليل على ذلك. ولم يستنكف شيوخ أوروبا وعجائزها في إرسال أبنائهم وذويهم إلى الأندلس، ليتعلموا العربية وينهلوا من علومها في جامعة قرطبة، لتقف القارة العجوز على قدمها مرة أخرى بعد أن فاتها قطار الحضارة. والتاريخ يقدر ذلك، لكنه لا يحترم من فقد هويته من أجل بضعة كلمات يتشدق بها، ليتعالى على أهله وذويه، ويصبح مسخاً مشوهاً لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك. وها هو ذا أنيس منصور يحكي لنا موقفاً مما جرى له في سبعينات القرن الماضي، عندما ذهب إلى ألمانيا ليدرس الفلسفة، وفي جلسة مع بعض المستشرقين، قالوا له: كيف أحوال الدكتور رمضان عبدالتواب، وما آخر مؤلفاته؟ فكانت إجابته: لا أعرف من هو رمضان عبدالتواب. وهنا انفض المجلس ساخطاً عليه، كيف يكون عربياً مصرياً ولا يعرف هذا العالم الكبير، يقول أنيس منصور: حاولت أن أقنعهم بشتى الطرق بأنني أعرف جيداً فلسفة نيتشه، وأعشق أدب جوته وأهيم بموسيقى بيتهوفن، وأخذت أعدد مفردات الثقافة الألمانية حتى أحصل على رضاهم وأستعيد ثقتهم، إلا أن ذلك لم يُجْدِ نفعاً. وعدت إلى مصر أسأل عن هذا الرجل الذي أحرجني في ألمانيا، وذهبت إلى الجامعة، فإذا بالعالم اللغوي الكبير يحاضر طلبة الصف الأول في قسم اللغة العربية متواضعاً لا يعرف عنه الناس كيف وَضَعَهُ علمه بالعربية وذوده عن إسلامهِ تلك المكانة العليّة في نفوس علماء الغرب. وفي المقابل، نقف إجلالاً وتقديراً أمام قصة ذلك الطالب الذي كان لا يزال في بداية دراسته في كلية الآداب، وحينها كان يطلّع بكل مهارة وحذق على البحوث العلمية الإنكليزية بلغتها الأصلية التي كان يجيدها في هذه السن الصغيرة، وعندما وجد أستاذه (عميد الأدب!) يسطو على بحث مستشرق يهودي، يهاجم في ظاهره الشعر الجاهلي، وفي باطنه تراث الأمة وحضارتها وتاريخها ودينها، ثارت نخوته وأعلن أنه ترك كلية الآداب لفساد الحياة الأدبية. لقد خسر هذا الطالب - بسبب إجادته للغة الإنكليزية وعشقه للعربية – الحصول على شهادة جامعية. لكن ثقافة الأمة ولغتها وتاريخها - كل ذلك مجتمعا - أعطاه شهادة (شيخ العربية). إنه العلامة وشيخ الشيوخ محمود محمد شاكر. إن شاكر لم يخسر الجامعة بل الجامعة المستغربة هي التي خسرته، وكما يقول أبو الطيب: إذا ترحلتَ عن قومٍ وقد قَدَروا ألا تفارِقَهُمْ فالراحلون هُمُ وهكذا فإن غياب المفهوم الصحيح للغة، والأهداف الإيجابية من تعلمها يفقد الوطن سواعد أبنائه لانفصالهم عن تاريخه وطموحاته، فتصبح طموحاتهم جزءاً لا يتجزأ من طموحات الغرب في (العصر الأميركي) الذي يضيع فيه كل شيء إلا لغة المصالح الضيقة، التي تصب في النهاية في نهر القطب الواحد. نعم اللغة العربية لغة قوية، والتاريخ أثبت ذلك حين تصدت لكل محاولات المسخ والتهميش والاستبدال. وقفت صامدة أمام دعوات الكتابة باللاتينية، وأما محاولات إحلال العاميات مكان الفصحى، وأمام إحياء اللغات الإقليمية كالأمازيغية والنوبية والفرعونية على حسابها وغيرها. لكن ينبغي ألا ننسى أنها ضاعت في الأندلس حاضرة الخلافة، وفي تركيا عاصمة الدولة العثمانية. فلا يكفي أن نرفع شعارات قوة اللغة العربية ومتانتها وصلابتها أمام الأعداء، ونقول للبيت (رب يحميه)، لأن أبناءنا قد يتركون هذا البيت ويؤمون بيتاً آخر يعرفون لغة أهله. فاللغة ليست مجرد ألفاظ وقواعد، إنها ثقافة تتسلل إلى دم الإنسان من دون أن يشعر، فإذا به يستحيل إنساناً آخر! وإننا نتمنى أن يأتي اليوم لنجد أبناءنا يتحدثون بطلاقة باللغتين الإنكليزية والعربية في آن معاً، ينقلون لنا تجارب الأمم الأخرى، ويعرِّفونَ الأممَ الأخرى بما لدينا من مقومات تستطيع أن تشارك معهم في بناء الحضارة وصناعة النهضة والمساعدة في التقدم. * المشرف على مدارس ابن خلدون. [email protected]