يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان ملائكته عندما خلق آدم عليه السلام في سورة البقرة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، فهم يعلمون بما علمهم الله ان الفساد هو من خصال بعض ذرية آدم، فلا يخلو مجتمع إنساني على مر التاريخ من مظهر من مظاهر الفساد في الكثير من أنشطته العامة والخاصة، في تجارته وصناعته وبنائه والكثير من أنشطته حتى الدينية منها. يواجه المهتمون بظاهرة الفساد إشكالية حقيقية في قياس الفساد وتقييم آثاره بدقة، خصوصاً في ظل غياب المعلومات الرسمية أو ندرتها، وحتى في حال توفرها فإنها لا تعكس الصورة الحقيقية لمدى انتشار هذه الظاهرة في مجتمع ما، فالفساد كما هو معروف نشاط خفي يتم خلف الأبواب المؤصدة وتحت الطاولات، فالفاسد والمفسد والوسيط يحرص كل طرف منهم على إخفاء نفسه وشركائه فلا صحوة ضمير تفيد ولا وازع من دين يردع. يختلف الفساد في قطاع الإنشاء والتشييد عن غيره من القطاعات كون الكعكة كبيرة والاغراءات يسيل لها لعاب ضعاف الأنفس الأصفار هنا سداسية وسباعية وأكثر من ذلك، والآثار أيضاً فكل ريال يذهب لفاسد يذهب أضعافه لمفسد ويفقد الوطن أضعافهم مجتمعين من خلال مشاريع بنية تحتية لا تفي بالغرض وبتكلفة صيانة مرتفعة، فالاسفلت يذوب كالسكر مع أول زخات مطر، وفتحات تصريف الأمطار تتحول لنوافير وعيون لتغرق الاسفلت الذائب أصلاً وأسقف المباني تتحول لمناخل لحجب الشمس فتكشف رحمة الله ما كانوا يخفون. ومن هنا اقترح ان يتم اعتماد المطر كأحد وسائل قياس الفساد لدينا (مع حفظ حقوق الملكية الفكرية) وربما تعتمده المنظمات العالمية لقياس الفساد، فيكون المشروع أما مجتازاً لقياس المطر أو اخفق أو حصل على درجة متدنية، ولا بأس من ان يهتم الاخوة في هيئة مكافحة الفساد بموضوع اختبار القدرات والتحصيل للمشاريع بمقياس مطري، ولا ننسى ان معدل سقوط الأمطار لدينا ليس كارثياً والحمد لله وإلاّ لانهار المقياس. قد لا تكون كل المشاريع التي فشلت في اختبار مقياس المطر تعرضت لعملية فساد بصورته النمطية (قبول مسؤول مصلحة من مقاول للتغاضي عن عيب) بل هناك صور أخرى أشد إيلاماً، فعدم توفر دراسات ومعلومات للمصمم حول معدلات سقوط الأمطار ومجاري الأودية هو نوع من الفساد تكليف مكاتب هندسية ماركة «مكتبي في شنطتي» لتصميم مشاريع عملاقة هو نوع من الفساد، ترسية المشاريع على المقاول الأقل سعراً دون النظر في المعايير الفنية الأخرى هو نوع من الفساد، ولكن مع رعاية قانونية، عدم كفاءة المسؤولين عن عمليات الطرح والترسية والإشراف على تلك المشاريع هو نوع من الفساد، عدم تأهيل المهندسين السعوديين بصورة مناسبة هو نوع من الفساد، عدم وجود كادر هندسي لحماية المهندسين وتحفيزهم هو نوع من الفساد، والسكوت عن الفساد أسوأ من الفساد. * باحث في مواضيع إدارة المشاريع ومكافحة الفساد