يكتب الشاعر قصيدته بلوحة المفاتيح ويراها على شاشة الحاسوب ومعها يختلف حسه عن إحساسه إذ يتعامل بأدواته السابقة.. الورقة والقلم.. وفي خانة تأمل أخرى ينسج القاص تفاصيل قصته بالحس ذاته إزاء القلم والورقة.. وإن لم تتطلب القصة طاقة المخيلة ذاتها التي يتطلبها الشعر، ولذلك علاقته التاريخية بمسألة السرد التي تلازم القصة والصورة الشعرية بدقتها المختزنة في تكثيفها التاريخي لذاكرة شاعرها. من هنا كان اعتياد الشاعر في تعامله الورقي على النظر إلى المسودات الأولى للقصيدة أو تكرار لعبة العبث الطازجة في تركيب نص كثير التحول معلناً أنه لابد له من المسودات.. وبدونها لا نرى تلك التحولات المختزلة في الذاكرة أو المرسومة على صدر الورقة.. ولا نستطيع أن نتحسسها بما يكفي. وبالمسودة يمكن للمبدع أن يستعيد إلهامه الأول المؤرخ بميلاد إبداعه وهو في حاجة دائمة غير منقطعة إلى متابعة تطور نصه الإبداعي، وقد لا يدرك المبدع ذاته أحياناً متعددة ما لخربشاته الأولى من دور في الوعي بتحولات لا شعوره ولكنه يدرك مدى ذلك فيما بعد. ومنذ بدايتها الأولى حتى نهايتها فأهمية الخربشات تكمن فيما تسهم به من إثارة لخيال المبدع وتحفيزه إلى مراجعة مخيلته.. وبما أن البذرة الإبداعية في الكتابة الأدبية بشكل خاص تحدث في حالة لا إدراكية للمكتوب ولا وعي كامل من المبدع بما يكتبه، وهو يغوص في بئر الفكرة ويحاول التقاطها أقصى درجات الالتقاط.. ويحاول استعادة خزينته السرية بمفتاح وحيد لا يحصل عليه سواه ولا يحظى به إلا في لحظة إلهامه ولهذه اللحظة فرصتها النادرة. ويختلف المشهد المتعدد من خلال المساحة التي تمنحها الورقة لنظر المبدع ساعة تلاحمه بالإلهام إذ تسرح به في المكان ومكنوناته أو كائناته، وهذه الرؤية المتنقلة في أرجاء المكان تبدو للنظر القاصر عن تأويل أبعادها اللاشعورية مجرد أدوات يتم بها إطلاق الخيال وبعدها يتم للذاكرة المتخيلة استرداد الخيال إلى شرايين الورقة التي تتثنى وتتمدد وتسترخي. ومن تجربة شخصية ربما يكون مبكراً الأخذ بنبوءاتها، أزعم أنه من الضروري الانتباه إلى الأثر الإبداعي للحاسوب وما يحدثه من نقلة نوعية بدأت تتمكن من ذات الشاعر وها هي تبني ملامحها الجديدة وتستبدل أدواته.. وها هي سريعاً تتسلل إلى مخيلته، وتغنيه عن علاقته التاريخية المعهودة بالورقة والقلم. ذلك وغيره يدفعني لأتساءل: هل يمكن أن يفرط المبدع مستقبلاً بوثائق مسوداته الأولى؟! وكيف له - في حضرة الشاشة النظيفة - أعني شاشة الحاسوب - أن يحميها؟. لذلك.. كانت الفأرة تضيء برأسها وتبدو لي ذاكرة الشاشة يافعة بيضاء شديدة الإغراء. هل تطرد الفأرة القلم وتطير الشاشة بعيداً بالورقة.. عن شموسنا.. أيضاً ربما تلفت الشاشة النظر ساعة الإلهام إلى ضوئها الجهوري، وفي حدود مربعها تحاصر اللاشعور بالتركيز إليها ومعها.. ربما يحدث ذلك.. بينما يغفل الإدراك عن الوعي بجدوى ما تخبئه تلك الورقة الدقيقة مهترئة وغير مهترئة وهي تتذكر الإبداع بعد رحيله عن ذاكرة ملهمة.. وقد لا تتذكره الشاشة البيضاء، ولا يمكن لتلك الورقة العادية شديدة الرقة أن تنحر حروفها ضغطة غير مقصودة على أزرار لا يحتمل مزاج المبدع المتوتر وحركته القلقة التي تحدث له إذا ما هيمن إلهامه علي حواسه وهمّ بالتعبير عنه. ومع ذلك كله.. فالورقة والقلم تظلان تاريخاً يبقى كل العصور.. تاريخا ليس ينتهي أبداً.. وإن مضى به مستقبله.