الفتنة هي الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من فَتَنْتَ الذهب والفضة إذا أذبتهما في النار لتمييز الرديء من الجيد، والفتنة نوعان: فتنة الشهوات وهي تقديم الهوى على العقل، وفتنة الشبهات التي يقدم فيها الرأي على الشرع، وهذه مرادنا في هذه الرسالة، والفتَّان هو الشيطان، وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء، واختلال السير، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس، وقد جاء ذكرها ستين مرة في القرآن الكريم تحذيراً متكرراً منها، وبياناً واضحاً لسوء آثارها وشر أسبابها، يقول الله تبارك وتعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) الأنفال (25). فالآية الكريمة واضحة المعنى، أي اتقوا تفرقاً واختلافاً لا يصيب مآله، ولا يصيب نتيجته الذين ظلموا منكم خاصة، ولا الظالم وحده فحسب، وإنما يصيب الجميع بما فيهم النساء والأطفال والشيوخ والصالح والطالح، وجاءت (لا تصيبن) في الآية بمنزلة قوله تعالى في سورة النمل (أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم) وهو جواب الأمر بلفظ النهي. والمخاطب هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين، يقول الزبير بن العوام في حديث بن عباس رضي الله عنهما، وهو في موقعة الجمل سنة ست وثلاثين: «ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت، يقصد أهل بدر، بينما هو منهم، كما أنه رضي الله عنه حديث عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يتعوذ بالله كثيراً من الفتن، ويحذر منها كلما مر ذكرها، فمرة يخبرنا بأنها تموج كموج البحر.. يختلط فيها الحق بالباطل، ومرة يخبرنا بأنها كقطع الليل المظلمة، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً.. يبيع دينه بعرض من الدنيا، ومرة يخبرنا بأن القاعد فيها خير من القائم... من يشرف لها تستشرفه، بل أنه عليه أفضل الصلاة والتسليم يخبرنا بأنه عندما يتقارب الزمان، يقبض العلم وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر القتل. وقد رأى الصحابة رضوان الله عنهم شيئاً من الفتن، وما نجوا منها إلا بما تمسكوا به من القواعد الواضحة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليها الخلفاء الراشدون من بعده، ولم يزل الإسلام ينقص شيئاً بعد شيء في تحقيق كماله إلى وقتنا هذا، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه. والناظر في هذه الشرور المتوالية على الأمة، والفتن التي يرقق بعضها بعضا، يلحظ اشتباهها على العامة وبعض طلاب العلم الذين لا يلتزمون بفقه الفتن، فيتعجلون ويتكلمون فيها ولا يصلحون، مما أوقع كثيراً من الناس في الحيرة، والمعلوم أن ما يهيّج الفتن صنفان من الناس، صنف حسن النية، لكنه غير فقيه ولا حكيم، وصنف سيئ النية، خرج عن الطريق المستقيم يريد الشر للمسلمين، حتى أوقع كثيراً من شبابنا الذين يغلب عليهم الحدة والنفور، ولم تتضح لهم مثالب الفتن ومقاصدها، وكردسهم فيها، فأحرقوا بنارها، وصاروا وقودها وحطامها. فصار لزاماً علينا في هذه الأزمان التي ترفع فيها الرايات، أن نكون أهل فهم وإدراك، وأن نزن تلك الرايات بالميزان الشرعي الصحيح، ميزان أهل السنة والجماعة، فإن كانت تلك الرايات التي تنسب إلى الإسلام راية لا يطبق أهلها التوحيد، وما جاءت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي راية كافرة، واضح اجتنابها لعامة المسلمين، وإن كانت الرايات التي ترفع راية مسلمة، ترتب على ذلك أحكام شرعية لابد من رعايتها، أولها معرفة أهلها في الأمر بالصلوات والنهي عن المنكرات، وكيف هم في لزوم الفرائض والواجبات، وبعدهم عن المعاصي والمحرمات، وفي كل أمور الدين، وهل هم على الطريق المستقيم، ثم هل تعرف منهم وتنكر، وهل يظهرون ويُبطنون، فإن كان كذلك وإلا دل على النقص بحسب ذلك، وحصل الالتباس، فإن التبس على الإنسان كيف يزن الأمور، فعليه البعد عن سؤال هؤلاء الأصناف وأمثالهم الذين يعرفون بعضاً ويجهلون بعضاً، وقولهم يزيد الأمور اشتعالاً، والرجوع إلى العلماء الراسخين الذين يزنون الأمور بالموازين الصحيحة في الأفكار والأحوال، ويقيمونها بالتقييم السليم، ويحكمون بالحكم الشرعي الصحيح، وبرأيهم تحصل الجماعة، ويحصل الالتفاف على السنّة والجماعة، ويكون الولاء صحيحاً ليس فيه زيغ، ولا لبس، ولا تردد. فالفتن من أشد المكروهات عند رسوله صلى الله عليه وسلم وعند الصحابة والتابعين وتابعيهم سلف هذه الأمة؛ لأنها أشد أسباب الخراب، والدمار، والفقر، والبعد عن عبادة الله، وليس لنا فيها إلا الاضطرابات، وانتشار الفساد، والقتل، وسوء العلاقات. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. * مدير معهد الأئمة والخطباء بالرياض