تمعنت كثيراً يوم امس الاول في المشهد المهيب الذى كانت تنقله الفضائيات لوقفة حجاج بيت الله الحرام الذين تقاطروا من مختلف اصقاع المعمورة ومن كل فج عميق لأداء الركن الخامس من اركان الدين الاسلامي الحنيف ليس لكون ذلك المشهد قد بدا في تجلياته وروحانيته مجسداً ومعبراً لاسمى معاني التوحد والترابط والتعاضد بين ابناء الامة الاسلامية الذين يجتمعون كل عام في المشاعر المقدسة ليؤدوا نسكهم بلباس وصوت واحد (لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك) دون فرقة او تباعد بين عربي او اعجمي او تمايز في العرق او الجنس او اللون ولكن لان مثل ذلك المشهد هو من ظهر في سماته وملامحه غير معني بالتقسيمات المذهبية والاختلافات الطائفية والاجتهادات الفردية والصراعات الدنيوية التى اقحمت الدين بالسياسة ومزقت هذه الامة الى جماعات وشيع وفرق متناحرة تحت مسميات سنة وشيعة وجعفرية وزيدية وحوثية وسلفية وتكفير وهجرة واخوانية وجهادية ورافضة وخوارج وغير ذلك من التصنيفات التى يرى فيها كل فريق نفسه انه صاحب الحقيقة المطلقة وغيره يفتقد الى ما يعزز موقفه. وذلك ربما هو ما جعلني اتساءل في داخلي حالي حال كل من دقق النظر في مشهد ملايين المسلمين وهم يقفون على صعيد عرفات الطاهر في جماعات متداخلة وطوابير متشابكة يرفعون ايديهم تضرعاً الى الله وطلب مغفرته وقد خلع كل منهم رداء مذهبه وطائفته وتدثر برداء وحدة العقيدة وتعاليمها السامية التى اتى بها نبي هذه الامة محمد بن عبدالله عليه افضل الصلاة والتسليم قبل اكثر من اربعة عشر قرناً اذا كان هذا هو جوهر الدين الاسلامي الحنيف فما الذى تغير حتى تصبح امتنا بصيغة الجمع المبعثر والمفكك وما الضرورة التى تجعل من ابنائها اسرى لوقائع تاريخية كحادثة الفتنة الكبرى التى انقسم فيها المسلمون الى معسكرات متحاربة اثناء وبعد معركة صفين التى دارت بين انصار الامام علي ومعاوية ابن ابي سفيان وهو الانقسام الكبير الذى اتسعت شروخه بعد مقتل سيدنا الحسين في كربلاء لتطل هذه الفتنة برأسها من خلال تشظي المسلمين الى سنة وشيعة فيما ان ما جرى في حقيقة الامر في تلك الاحداث التى تعود الى القرن الاول الهجري قد اتسق باجتهادات بشرية ولم يكن ذي صلة بتعاليم إلهية او تشريع سماوي. وإذا ما كانت مصلحة الأمة في الوقت الراهن تكمن في وحدتها وفي تضيق الهوة التى تقودها الى المزيد من التشرذم والتمزق والخلاف فان من غير الواقعية والمنطق السديد ان تهدر هذه المصلحة تحت تأثير العصبية المذهبية التى مازلنا نستجر بها الماضي وملابساته ليس لشيء وإنما لتبرير حالة الانقسام المتوارثة التى ندفع فاتورتها حتى اليوم .. صحيح ان وراء النزاع السني الشيعي جذوراً تاريخية سابقة غير ان المدى الذى وصل اليه هذا الصراع راهناً يعكس تماماً ان هذه الامة التى تنتحر اليوم فوق قبور الماضي لم تتعلم من دروس التاريخ والأحداث والتجارب المأساوية التى مرت بها عبر الازمان ولم تتعظ من القيم الرفيعة التى جاء بها الدين الاسلامي الحنيف والتى تحث على الاعتصام بحبل الوحدة ونبذ التشاحن والضغينة والتناحر والتزمت والتعصب بدليل ان هذه الامة لم تدرك حتى الان ان ما يجمعها اكثر مما يفرقها فالإسلام واحد لا تمزقه الاجتهادات الفقهية لان شريعته متماسكة والقرآن الكريم يمثل كلمة الله العليا الى المسلمين جميعاً دون استثناء تنضم لهم ما اختلفوا فيه وتجمع بينهم اذا ما تفرقوا عنه وأبناء المذهبين السني والشيعي وان اختلفوا في تفسير النصوص او تباينوا في الاجتهادات الفقهية فليس هناك ما يبرر رفض احدهما للآخر او احتكار أي منهما لحقيقة التعبير عن جوهر الدين الاسلامي الحنيف و اظن ان انفتاح المذهبين على بعضهما البعض بمقدوره ان يشكل الغطاء للمساحة الروحانية للعالم العربي والإسلامي الذى اصبح هدفاً لأطماع الامم الاخرى التى تسعى للانقضاض على جسد هذه الامة الذى تفتك به الامراض وتنتظر اللحظة المناسبة لافتراسه وتقطيع اوصاله وإشباع نهمها من لحمه ودمه. يبدو لي ان التاريخ مع هذه الامة يعيد نفسه مرة تلو اخرى بعد ان ادمنت على تكرار اخطائها الى درجة صارت فيها لا تخجل من ذلك التكرار والذى تتصاعد وتيرته يوماً بعد يوم بتزايد الاحتقان الطائفي والنزاعات المذهبية والاثنية والتى لا شك انها قد وجدت من يستغلها من الاطراف الخارجية لأهداف تتعلق بالسيطرة على الموقع الاستراتيجي للوطن العربي الذى يختزن اهم الثروات الحيوية بيد ان هذا المخطط ليس جديداً فقد سبق وان كشفت عنه صحيفة القوات المسلحة الامريكية في يونيو عام 2006م ضمن تقرير مستفز بعنوان (حدود الدم) احتوى على خريطة جديدة لمنطقة الشرق الاوسط يتم فيها ترسيم الحدود على اسس طائفية واثنية. وليس سراً ان النزاع السني الشيعي اصبح يمثل جوهر النزاعات الاثنية في عدد من الاقطار العربية خصوصاً في ظل تمدد النفوذ الشيعي الذى تفصح كثير من المؤشرات على انه صار مدعوماً من بعض القوى الدولية التى تعمل على ثلاثة محاور رئيسية ومتداخلة سعياً الى تأجيج العداء بين السنة والشيعة واحتواء المنطقة وقد تجسد هذا التوجه بشكل واضح في العراق الذى جرى تسليمه لإيران عن طيب خاطر من قبل الجانب الامريكي وكذا ما يحصل اليوم في اليمن وتحديداً في محافظة صعدة الشمالية من اقتتال مذهبي بين الحوثيين والسلفيين وما يشهده جنوبه من تصعيد للاحتجاجات الانفصالية والتى لا تتردد الحكومة اليمنية عن اتهام الجانب الايراني بدعمها ومساندة حركة الحوثيين في الشمال ناهيك عن الدور الايراني تجاه ما يحدث في سوريا الذي تكشفت نواياه اكثر بتدخل مليشيات حزب الله ومشاركتها في المعارك الجارية في هذا البلد تمهيداً للسيطرة عليه بعد العراق ليكتمل القوس الذى كان قد حذر منه العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني. واتساءل في الاخير يا ترى هل مازال في هذه الامة شعور حقيقي بالمسؤولية التاريخية حيال ما قد يفضي اليه هذا الصراع المذهبي والطائفي الذى ينحرف ببوصلة هذه الامة انحرافاً حاداً ومخزياً وهل بقي هناك أي قدر من الاحساس بأن الحفاظ على وجود هذه الامة وديمومتها واجب على جميع ابنائها على اعتبار انه دين في رقابهم للأجيال القادمة؟ شخصياً لا اجد ذلك.