عندما كنا صغاراً كانوا يقولون لنا إن الإنسان «مسيّر» وليس «مخيرا»، كنت استمع لهذه العبارة ولا أتوقف، خاصة أنهم كانوا يربطون ذلك بالمشيئة الإلهية، بمعنى أن الإنسان، ولُد من أبوين لا خيار له في اختيارهما، وبيئة وجد نفسه فيها، وأسرة، وقبيلة، ومدينة، وما إلى ذلك، هو لا يملك خياراته المطلقة منذ البدء، وعليه أن يكمل كذلك. بالتدريج استوعبت الجزء الأول، لكن الجزء الثاني وهو أننا مسيّرون في كل الحياة يحتاج إلى توقف قليلاً، إلى نقاش، إلى محاولة استيعاب، إلى لملمة لأطرافه، ودخول إلى أعماقه. نتوقف لنعرف أننا في البدء أحرار خلقنا الله وبالتالي لنا حق الاختيار بالتحديد فيما يتعلق بمصائرنا، دراساتنا، أعمالنا، حياتنا الاجتماعية، اختياراتنا في الحياة، أحرار في تفكيرنا، في مستقبلنا، في اختيار أسوارنا الحقيقية والمفترضة، ما يمكن الاستمرار به، وما يمكن الابتعاد عنه. أحرار في أن نفرح، ونحضر تفاصيل هذا الفرح في دواخلنا، أحرار في أن نغضب، ولا نقف على خاطر أحد. نختار الطريق إذا وجدنا أنه الأسلم، وأنه هو من قد يقودنا إلى نهاية النفق. بمعنى أنه إذا وُجد طريقان وأنت في كامل قواك العقلية إحداهما لا يوصل إلى ما تريد، فاختر الطريق التي توصلك إلى هدفك. لسنا مسيرين عندما نكبر في اختيار أهدافنا، أو تحديد معالم ما يمكن أن نتجه إليه. لسنا مسيرين وبالذات عندما تتسع مسافة الخبرة الإنسانية، وتعرف مسارات التدقيق في حساباتك، وكيف تستطيع أن تقيم توازنا موضوعيا لا تقف على حدوده، وإنما تسلك مسالكه. عندما تكون مسيّراً ربما تشعر بالسعادة لأنك لست مسؤولاً عن قرارات اُتخذت لك، ولكن ستصبح الحياة واجباً، عليك أن تؤديه حينما تجد نفسك مسؤولاً عن خياراتك، لن تكتفي لحظتها بالانتباه للطريق، ولكن سوف تتقدم، لأنه لا ينبغي أن تظل في مكانك، لا تبدأ ولا تتحرك، ولا تصنع الاستمرارية. عندما تقرر أن تختار ستجد جوانب خيرة متعددة، وقد لا تحصيها ولكن في بعض الأحيان قد لا يكون أمامك سوى خيار واحد، ليس لعدم وجود غيره، ولكن لأنك أنت أردت هذا الخيار - اخترته، اكتفيت به، حاصرك، هيمن عليك، مارس سياسة الحصار، وتسمرت أنت في مكانك مستسلماً له.. والسبب أنك بحثت عنه كثيراً.. حلمت أنه خيارك.. الوحيد.. لا فوائض من الخيارات متبقية تعرف جيداً لماذا؟ لأنك سحبتها جميعاً إلى الخارج، وأبقيت على الخيار الذي توحدت معه. لكن ما القاعدة في هذا التوحد؟ وهل هذا الخيار سيفضي بك إلى نهاية النفق سالماً؟ أم أنك لم تحدد أي شيء؟ وهل سيكون هو الخيار المشروط؟ والذي يقتضي أن يسيّرك هو وليس أنت؟ تتعلم الاستقلالية وتجيدها لكن بعض الخيارات تفتح أحاديث لم تنته وتجد نفسك في مرحلة من مراحل لا بد من ترك كل الأبواب مفتوحة، خاصة وأنك لم تعرف اتساع أو محدودية إرث ذلك الخيار، والذي وإن كان صعباً في اختياره إلا أنه أكثر صعوبة في التعامل معه وقراءته..!!!