ليس حباً من أول نظرة، فقد كانت هي البصر والبصيرة، ولم يكن عشقي لها نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء، وإنما كانت هي البسمة التي تنتزع الحزن من فؤادي، وتبذر السعادة في أعماق قلبي، وتغرد في أذني لحن الغرام فيكون كلامها سحرا وصمتها فتنة، ويكون اللقاء عناقا متجددا. كل يعرف لحظة الحب التي أشرقت في نفسه، وأنا أعرف أن حبك لم يكن لحظة لقاء طرْفَين، وابتسامة ثغرين وإنما كان وحيا غمرني فاستيقظت من وطأة اللذة وقد ملكت علي كل جوانحي. فلم أعد أبصر إلاك، ولا اتنفس غير دفء هواك، ولا تحملني قدماي بعيدا عنك حتى أجدني إلى حضنك قد اشتقت وإلى حنانك ظمآنا أتوق لرضاب ثغرك الساحر، فيكون العناق بعد الفراق آكد البراهين على حرارة الشوق ومرارة البعد. كل حبيب يجفو حينا، ويهجر أحيانا، وتتقلب الحياة بين الحبيبين بحلوها ومرها فيكون ذلك ملح العلاقة التي بدونه تغدو رتيبة مملة، إلا نمير حبك فهو عذب دائما، لا جفاء ولا تقلب ولا نقصان بل يزيد دائما ليحطيني بالأمان والسعادة في حضرتك أيتها الحبيبة الغالية. من بعيد أرنو إليك بطرف معجب، وفيك تتيه كلماتي غزلا يستمد عذب معانيه من عطاءك الذي لايفتر، ولا يتغير إلا إلى الأفضل. أغار عليك من كل طرف يرمقك وفي قلبه ما تخرس كلماته عن البوح به، وأغبط نفسي أنك حبيبتي، فأستيقظ وأنا أعيذك بالله من شر عباده، وأحصنك بكلماته من آفات الدهر ومحن الأيام وتقلبات الظروف. آه منك يا حبيبتي، آه من كرمك، وآه من قلبك الرؤم حتى على المسيئين لك. كل صفاتك تزيدني بك تعلقا، أحصي خصالك الجميلة، فلا أجد لك مثلبا عندما ينزغ الشيطان بيني وبينك، آراك فوق النقص، فتدحر قناعتي بحبك وثقتي من حبي لك الوسواس الخناس، فلا يُرى أعداؤك أكثر خزيا منهم يوم يرون عشقي لك يتعتق مع مرور الأيام وتقلبات الاحوال. أخذتني الحياة لأراك من بعيد؛ فرأيتك من العراق حيث تنهار الدولة، وتتقزم الهوية، ويعلو صوت المذهبية، فيكون القتل بالجملة وعلى الهوية، ويغدو الأمان كالخل الوفي تبحث عنه فلا ترى في الأماكن إلا دما حرم الله سفكه إلا بالحق، ولا تجد في العيون إلا أسى وخوفا يتفطر له القلب الشديد، والمكان والإنسان والتاريخ تسير مهرولة إلى نفق مظلم لا نور في نهايته، ولا فجر لليله، ولا أمل يلوح في الأفق فيكشف الحيرة التي تشل كل مظاهر الحياة، من هناك ترائيتِ لي فنارا يهدي التائهين، وحياة تستهوي بني البشر، وحبا يغمرني بالسعادة، إنك هناك يملأني لك الشوق والحنين. ثم التفت نحوك من ليبيا، حيث ظلم الإنسان لأخيه، وشتات القلوب، وانبعاث الجهل والقبيلة، وتناحر الأخوة، وتعدد مشارب السوء، وغياب الأمن وفقدان الأمل، فوجدتك شامخة تطببين جراحي، وتخففين ألمي. ثم رمقتك نظرة وأنا في سورية، وقد أكلها السبع، ونهش عظام أبنائها الكيماوي، وتشرد أهلها، وغدوا أذلة بعد عز، وفتحت للفتنة أبواب لا تغلق، وتحولت إلى مسرح للقتل والتهجير، وعدالة العالم عمياء صماء لاترى ما يحدث لأهل الشام من تصفيات يندى لها جبين الإنسانية، فوجدتك وقد تدثرت بثياب الأيمان، تنثرين ركعات الشكر، وتهفو إليك الأفئدة، فأنت الركن الشديد الذي تنعقد عليه آمال الحيارى. فهل أعاود النظر كرة وراء أخرى لك يا حبيبتي من مصر التي يتآمر عليها الأعداء وتطعنها بسهام مسمومة جماعة من أبنائها، أم هل يروق لك أن أهديك قبلة من تونس الخضراء التي تحولت إلى بلد يتأرجح بين الخوف والرجاء، الأمل والألم، الاستقرار والفوضى، أن يكون أولا يكون. أم أرمق ألقك من السودان الذي يخرج من محنة إلى أخرى، وقد أعجزته الحلول فلا هو موحد كما كان ولا هو قد تحرر من عبء الجنوب فانطلق نحو البناء والتنمية. آه يا حبيتي، أنّا يممت وجهي وجدتك فجر الأمل الذي لاتخطئه عيني فيهفو إليك قلبي وجسدي، فأغذ المسير لأمرغ خدي في حضنك الذي يفوح منه الجمال والحنان والأمن، والعطاء. لكنك مسكينة أنت يا حبيبتي، كم أشفق عليك من سهام الغدر التي تتربص بك من حولك ومن داخلك. إنهم أشد خطرا عليك من البعيد الذي تهب في مواجهته كل حواسك، فهم أشد فتكا وأكثر إيلاما. في العيد يا حبيبتي أقول لك كل عام وأنتِ العيد وفرحته. حماك الله وخذل من يتربص بك الدوائر. عاد عيدك يا بلادي، يا أجمل الحب وأصدقه... كل عام وأنتِ الوطن، ومواطنيك بخير.