عشرات إن لم تكن مئات المقالات والتحقيقات التي أخذت تنهمر في صحافتنا المحلية تتناول قضية الساعة، قيادة المرأة للسيارة في البلد الوحيد في العالم الذي يمنعها منه بكل أشكال الحجج الفجة، الدينية: الشرع لم يحلل، سد الذرائع، إفساد النساء، الهجمة التغريبية. العلمية: تؤثر على مبايض المرأة وقدرتها الإنجابية، تؤثر على غشاء البكارة فتفقده بالقيادة. السياسية: دعوة للثورة والتظاهر. ثم الحجج السوقية والقذفية والاتهامية والتخوينية إلخ مما ابتلي به مجتمعنا منذ عرف فضاء الانترنت وقدرته على التخفي وراء اسم مستعار للتنفيس عن كل العقد والأمراض النفسية والعنصرية والفوقية على كل من يخالفه ويكرهه ويحتقره آمناً من العقاب والفضيحة. اليوم تأتي قضية قيادة المرأة للسيارة والتي لن أضيف إليها الكثير مما سبق وقيل خلال اليومين الماضيين فقط، ولكن لا يمكنني إلا وأن أدلي بدلوي لاسيما في ظل تسامح الصحافة هذه الأيام وارتفاع سقفها (ما شاء الله من غير حسد). أرى أن من الضروري الوقوف عند توصية الشوريات الفاضلات الدكتورات هيا المنيع، لطيفة الشعلان ومنى آل مشيط يوم الثلاثاء الموافق 3/12/1434ه (8 اكتوبر 2013م) في جلسة مجلس الشورى العادية الثامنة والأربعين التي عقدت يوم تقرير لجنة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات بشأن تقرير الأداء السنوي لوزارة النقل للعام المالي 1433/1434 ه. فقد قامت الدكتورة هيا المنيع، بكل هدوء وحرفية، بتقديم توصية باسم ثلاثة من عضوات المجلس، بخصوص فشل وقصور وزارة النقل في توفير وسيلة المواصلات العامة الآمنة والميسرة للمرأة تغنيها عن منع قيادة السيارة، وأنه بالتالي آن الأوان للسماح الرسمي بقيادة المرأة للسيارة التي لا يمنعها أي مانع نظامي وفق نظام المرور. وقد أرفقت هذه التوصية المدروسة بتأن، بدراسة تفصل المسوغات الشرعية والنظامية والحقوقية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية الموجبة لقيادة المرأة للسيارة قدمتها العضوات الثلاثة مكتوبة إلى لجنة النقل لاتخاذ اللازم بشأنها، فإما أن تتبناها وإما أن ترفضها، وفي هذه الحال إما أن تطلب سحب التوصية، وهو ما لن تقبل به الشوريات، أو أن تُعاد إلى المجلس للمناقشة والتصويت عليها، وهو المتوقع حدوثه بعد العيد وبعد أن تأخذ التوصية دورتها النظامية. الغريب في الأمر أنه بعد يومين من الجلسة ومن البيان الصحفي الروتيني الذي يلي كل جلسة، إذ بالمتحدث الرسمي باسم المجلس يخرج بتصريح مناقض لما جرى في المجلس ولآلية اتخاذ القرار فيه فضلاً عما يحمله من شبه تكذيب للشوريات وتقليل من شأنهن وشأن توصيتهن بدعوى أنها خارجة عن مسؤوليات موضوع التقرير وهي وزارة النقل. وكان الأنكى جملة الدكتور محمدالمهنا: "إن ما رأته العضو من تقديم توصية إضافية بشأن ما طرحته لا يعتد به كونه مخالفاً لقواعد عمل المجلس في مادته الحادية والثلاثين"، وهي المادة التي تعنى بضرورة علاقة التوصية بالموضوع المناقَش. أي أن عضوة مجلس الشورى لا تعرف، وبعد مرور تسعة شهور من انتظام عملهن في المجلس، ما هي قواعد العمل فيه. إن تصريح مجلس الشورى المتأخر يشير إلى تخبط دار ويدور في كواليس الشورى في غياب العضوات والأعضاء مما يعتبر في جميع الأحوال، غير نظامي وينم عن كسر لقواعد عمل المجلس وعودة إلى عصر الزجاج المثلج. ثم كيف لا يتصل موضوع منع المرأة من قيادة السيارة بمهام وزارة النقل التي لا توفر البديل لحل أزمة حركة المرأة في المدن؟ من هي الجهة المعنية في هذه الحال؟ وزارة الداخلية؟ ربما أنها شريك، لكن تقرير هذه الوزارة لا يُعرض على المجلس سوية مع جهات مثل الحرس الوطني أو وزارة المالية. فهل دور المجلس مساندة الوزارات والقطاعات بالتنصل من مسؤولياتها لمجرد أن الموضوع أصاب بعض الأعضاء أو أقربائهم بالحساسية؟ على الرغم من أن أعضاء وعضوات مجلس الشورى ليسوا ولسن منتخبين ومنتخبات إلا أننا ارتضيناهن ممثلات لنا ومبلغات لصوتنا وقد كن عند حسن ظن القيادة التي أحسنت اختيارهن، وعند حسن ظن المرأة السعودية، أو على الأقل، نسبة كبيرة منهن (حتى لا تعترض معترضة). ومن المعيب الخروج في الإعلام وفي غيابهن للطعن في معرفتهن أو التزامهن بالنظام أو قدرتهن على التمييز بين ما له صلة بالموضوع وما لا صلة له، مما فيه من لمز لهن. نظامياً، وصلت التوصية إلى المجلس وإلى لجنة النقل كتابياً ووثقت على هذا الأساس، فلم يبق على مجلس الشورى وقد وضع نفسه في هذا المأزق القانوني والأدبي إلا أن يخلص نفسه بالاعتذار الرسمي وعلى الملأ، وبترك التوصية تسير بطريقتها النظامية. قيادة المرأة للسيارة ينتهي البت فيها بمجرد أن تكون اختياراً، وهو بالطبع البديهي في كل المطالبات السابقة، لكنها في مطالبة اليوم التي ترمز لنفسها بقيادة 26 أكتوبر أخذت صورة أكثر وضوحاً، القيادة اختيار وليست إجباراً، تضاف إلى كل المسوغات التي ساقتها عضوات مجلس الشورى تحت قبة المجلس ولن أسوق المزيد مما هو معروف. لكني أزيد بأننا لن نسكت عن حقنا في مطالبة وزارة المالية بتعويض كل نساء المملكة وبأثر رجعي عن بدل المواصلات الذي ينبغي أن يغطي راتب سائق ورسوم استقدامه وإعاشته وإسكانه ورخصته وإقامته وتأمينه الصحي وحوادثه وتحرشه وابتزازه واستغلاله، لتضاف إلى الست مئة ريال التي لا تسمن ولا تغني من جوع. المؤشرات على حدوث تغير هذه الأيام كثيرة منها التصريحات الإيجابية من عدد من المسؤولين منهم مدير عام المرور وغيره من القيادات، ومنها السقف غير المسبوق في التعاطي مع موضوع القيادة في الصحافة المحلية والقنوات الفضائية، وإخلاء سبيل عدد من النساء اللاتي قدن السيارة في مناطق متفرقة من المملكة بدون حيثيات، وصول القضية إلى مجلس الشورى وعلى يد شورياتنا الفاضلات مشكورات، وقبل ذلك أن خادم الحرمين الشريفين أمر بدخول المرأة مجلس الشورى والمجالس البلدية، أي ما هو أعظم من مجرد قيادة مركبة تقودها النساء في كل مدينة وقرية في العالم فضلاً عن باديتنا. فماذا بقي؟ ما يمكن أن أختم به هو كفانا هدراً لوقتنا وجهدنا وحبرنا ومالنا وعمرنا.