فجعت أوساط كثيرة في المجتمع العربي السعودي بمختلف فئاته بوفاة عالم من علمائه، ومسؤول كبير من رجال القضاء والتعليم والإدارة العليا في الدولة، وأحد أكثر الرجال المشتغلين بالعلم: دراسة وتدريساً وتأليفاً وتحقيقاً وبحثاً ومشاركة فاعلة في كثير من الملتقيات والندوات والمؤتمرات العلمية محلياً وعربياً ودولياً؛ إنه المرحوم بإذن الله تعالى صاحب المعالي والفضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ عبدالملك بن عبدالله بن عمر بن عبدالله بن دخيل الله بن دهيش الشمري نسباً، والحائلي أصلاً ومولداً، والمكي تعليماً وموطناً وإقامة حتى اختاره الله إلى جواره ليلة الخميس الثاني والعشرين من شهر شوال 1424ه، وصُلِّي عليه بعد ظهر يوم الجمعة التالي في الحرم المكي الشريف، ودفن في مقبرة العدل بمكةالمكرمة رحمه الله رحمة واسعة. عاش معالي الشيخ ابن دهيش حياة كلها مليئة بالجد والاجتهاد والمثابرة، فطلب العلم منذ نعومة أظفاره حتى نال أعلى درجاته بحصوله على درجة الدكتوراه ثم الأستاذية، فضلاً عن حصوله على عدد من الإجازات التي منحه إياها علماء أفذاذ في رواية الحديث وأسانيده، وفي السيرة النبوية الشريفة. وتدرج في سلك القضاء حتى ترأس واحدة من أكبر المحاكم الكبرى في المملكة هي المحكمة الشرعية الكبرى بمكةالمكرمة. وعمل في مبتدأ حياته الوظيفة معلماً في بعض مراحل التعليم قبل عمله في القضاء، ثم مالبث أن عاد أو أعيد إليه مُتَوِّجاً مسيرته في التعليم بأن عُين بأمر ملكي رئيساً عاماً لتعليم البنات بمرتبة وزير. وبين التعليم والقضاء، وقبل رئاسته لتعليم البنات عُيَّن الشيخ ابن دهيش بأمر ملكي أيضاً نائباً للرئيس العام لشؤون الحرم النبوي الشريف بالمرتبة الممتازة. وحينما كان (رحمه الله) رئيساً عاماً لتعليم البنات كان أول لقاء لي بمعاليه دون واسطة أو سابق معرفة في مكتبه بالرياض الذي كان مفتوحاً لجميع المراجعين من مختلف أنحاء المملكة، وكنت أحد أولئك المراجعين الشافعين في قبول بعض خريجات الثانوية العامة استثناءً في كلية المعلمات بمحافظة القنفذة، أو خريجات الكفاءة المتوسطة لقبولهن في معاهد المعلمات الثانوية بالمحافظة نفسها، وفي كل مرة لا أخرج من عند إلا راضياً وفرحاً بموافقته على كل من شفعت في قبولهن عند معاليه ليس لسنة واحدة، وإنما لعدة سنوات، بل إنني في إحدى السنوات شفعت عنده لقائمة من عدد من المتقدمات ممن طُلب لهن الاستثناء من شرط القبول في الكلية المذكورة وشفّعني فيهن -رحمه الله-، مدركاً تمام الإدراك حاجتهن وحاجة أولياء أمورهن إلى رسم مستقبل بناتهن. واعتقد أن كل من راجعه في مسألة شبيهة بالمسائل التي راجعته فيها خرج من عنده راضياً، وفي يده ذلك الظرف الأبيض المعلم بخط أزق، وفيه قرار الاستثناء من شرط القبول. فلكم أن تتصورا ماسيناله -رحمه الله- من أجر أولئك المستثنيات اللائي واصلن دراستهن، وتخرجن وعملن منذئذ، فسترن أنفسهن، وخدمن وطنهن وأَعَلْنَ أسرهن، وعطفن على المحتاجين من ذوي قرابتهن، وتلك والله من أفعال الخير والبر التي اشتهر بها الشيخ في حياته وحتى مماته-رحمه الله-. ويعدّ معالي الشيخ ابن دهيش في مقدمة من عُني بالنشر العلمي بحثاً ودراسة وتحقيقاً، فله على المعرفة الإنسانية أفضال لاتنسى، ومآثر لاتستقصى، فقد حقق عشرات الكتب والرسائل في مختلف ميادين العلوم الشرعية، ومثل ذلك العدد من كتب التاريخ المكي الذي عشقه، نذكر منها تحقيقه لكتاب: أخبار مكة في قديم الدهر وحديث للفاكهي في ستة مجلدات، وكتاب: الدر الكمين بذيل العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين لعمر بن فهد في ثلاثة مجلدات، وكتاب: أخبار مكة للأزرقي، وكتاب تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام للصباغ في مجلدين أيضاً، وكتاب إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام للشيخ عبدالله غازي في سبعة مجلدات، وله من التآليف في تاريخ مكة ومعالمها التاريخية كتاب: الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به، وكتاب: حدود وأحكام المشاعر المقدسة: منى عرفات مزدلفة، وأعاد طبع كتاب: التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم لمحمد طاهر الكردي، بعد أن أعاد صفّه، ورتب مافيه من أشكال وصور وخرائط وجعلها ملحقاً بالكتاب الذي جاء في ثلاثة مجلدات أنيقة طبعها على نفقته الخاصة. وكان الشيخ ابن دهيش لايريد من تآليفه وتحقيقاته كسباً مادياً، وإنما يبتغي الأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى، فكان -رحمه الله- يهديها لكل من يطلبها من الباحثين، وطلبة العلم، وكان يتحمل تكاليف إرسالها إلى طالبيها بمختلف الوسائل الموصلة إليهم مهما نأت ديارهم، وبعُدت أقطارهم. وتقديراً لجهود الشيخ ابن دهيش -رحمه الله- في العناية بتاريخ مكة، وتحقيق أمهات مصادره فقد كَرَّمَتْه في حياته جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في ملتقاها السنوي المنعقد في الكويت في 11/3/1426ه برعاية وزير التربية والتعليم والتعليم العالي الكويتي، وحضور الأمين العام المساعد لقطاع الإنسان والبيئة بمجلس التعاون لدول الخليج العربية. وحضور أكثر من مئتي عضو من أعضاء الجمعية المتخصصين في التاريخ والآثار من أساتذة الجامعات، ودور الآثار في مختلف دول مجلس التعاون الخليجي، عدا من حضر من أرباب الفكر والثقافة والإعلام من الكويت وخارجها. فرحم الله الشيخ ابن دهيش رحمة واسعة، وعظم الأجر لأولاده وإخوته، وسائر أفراد أسرته ومحبيه، فمثله لم يمت وقد ترك من العمل الطيب والذكر الحسن والمآثر الخالدة الشيء الكثير. وقد علمت أن له مكتبة زاخرة بمختلف العلوم والفنون، وأن بيته ومكتبته كانا مفتوحين في حياته لطلاب العلم، ولكل من يود الاستفادة من ذخائرها، أو الانتهال من غزير علم صاحبها، فهل تحافظ أسرته وما فيهم إلا وهو على درجة عالية من العلم والإدراك على هذا المنجز الخالد؟ وهل تعمل على إيقاف المكتبة، وتحويلها إلى مركز علمي وبحثي يحمل اسمه، ويخلد ذكره، ويستفيد منه الدارسون والباحثون، وطلاب العلم كافة، ويعود أجره وثوابه عليه وعلى القائمين بأموره إلى يوم الدين؟ * أمين عام جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي وعضو مجلس الشورى