من يكتب يعتقد أن الأرض أرضه.. امتلك تفاصيلها.. واقترب من ثمة أمور لا يعرفها الآخر داخلها.. تستغرقه متعة هذا الحق.. أو هذا الاستيلاء عليها..! ينغمس في ظلالها.. وكأن لا مكان له غيره.. قرأت في احدى المرات لمبدع عبارة «وقع الزمان كان رهيبا عليّ، توقفت أمامها.. سكنتني.. ربما لأسبابه.. وربما لأسبابي.. وربما لأنني أذبت الحواجز بين ما أراد أن يقول، وبين ما تمكّن مني من تلك العبارة.. في الكتابة باختلاف رؤانا وما نريد أن نطرحه، ولكن نقطة الالتقاء، هي وجع الحياة، ألم الكتابة، سحرها الواحد، مراراتها الواحدة، وكلنا يكتب من واقع ذلك الزمن الرهيب الذي هو قدرنا، وأرضنا وتاريخنا، باختلاف أزماتنا، وظروفنا.. وبيئتنا، لكن بمشترك هو خيارنا الوحيد الذي نبحث من خلاله عن مخرج، تتغير فيه الألوان، ونهرب من مخاوفنا.. لنجد طريقاً نحتمي فيه من خسارات الزمن..! في بداية الاستغراق في الكتابات الرومانسية، والحالمة، ومن فجر العمر إلى حتمية ملامسة الأيام المترصدة، كان يداهمك صحفي بسؤال اعتيادي «لماذا تكتبين؟». أتذكر أنني كنت أكتب صفحات عن ذلك (اكتب كتابة حالمةة، رومانتيكية، متعالية، فائقة في تفاصيل ما أريد أن أفعله، لأغير معالم الكون بما أكتبه، تراكيب، مفردات، ذاكرتها التغيير، والقفز هناك إلى عالم افتراضي، يتحطم فيه كل ركود.. ونكون نحن أصواته القادمة.. تتغير الأيام.. وتصبح الكتابة وإن كانت في بدايتها اندهاشا، وحضورا ممتعا، إلا أنها أصبحت هماً موجعاً، وصوتاً داخلياً، غير مترف، يذكّرنا بالحكاية، وإنها لم تكن خياراً، بل كانت فرضاً من فروض الحياة..! لا أتذكر أنني أحببت أنني أكتب لأقرأ اسمي، أو لنفسي، كل ما أتذكره أنني اعتدت، أن أكتب لأذيب مرارة الأيام، ولم تكن هناك مرارة، أما الآن فأنا أشعر أن الكتابة، أصبحت ملاذاً، وشرطاً قاسياً.. من شروط الحياة، لأطلب منها (أن ترأف بي) أن تبقيني في مكان أستشعر فيه نبضي، وأتلمسه، أن أكسر حاجز حسابات معقدة.. لم أتنبه لها.. ليس لأنني لم أعرفها.. ولكن لأن ثمة أمور كثيرة لا نعرفها.. وشرط ملامستها أننا نعرفها.. ليس للكتابة أحكام وقتية، فأحكامها دائمة، ونحن محكومون بها.. وفي كل الحالات نعيش داخلها.. ونفقد علاقتنا في طريقنا إليها بالناس، والأشياء دون إرادة، أو وعي، لنسكن بشرا قادمين من مخاوفنا، من أحلامنا خاصة بعد تجربة طويلة، نجدهم معنا مدركين لما نقوم به، نكتبهم، حتى وإن زادوا علينا من معاناة الحياة. هو ذلك الطقس الذي نشعر به عندما ننغمس في الكتابة..! هو استنزاف لما تراكم داخلنا منذ زمن.. وبدا لنا أننا لم نتأثر به، ولم نشعر، ولم نلامسه، لكن في لحظة نتصالح معه، ونفتح له الصفحات ليظهر عالمه الحقيقي، وليس المتخيل..! تتحول الكتابة أيا كان توجهها إلى قطعة ملتهبة من القلب، غير منزهة من النزيف أو الاستنزاف، تتجاوز معه رغم الألم متعمداً فجراً ومساء ذلك العالم الافتراضي، لتلمس عالماً أكثر فرادة، تجد فيه أبطالاً حقيقيين.. حولك.. وداخلك.. عشت معهم زمناً.. ولم تتوقف أمامهم.. اعتقدت أنهم وهم معك عاديون لا تعني مادتهم بأن تفتح لها صفحة من الكتاب، فجأة.. تذوب من البرد.. ولا تعرف كيف تدفأ.. إلا من خلال ما تراكم داخلك، وتحول إلى مرصد، ترى منه تلك المراكب المشعة، والمطلة على متغيرات الزمن.. نتحول لنكتب حقيقتنا.. ومن سخرية الصدفة نكتشف ذلك الضباب المترصد في داخلنا، بمتعة التنوع في الكتابة، والذي يأتي، ولم يعد مرتهناً بذلك السؤال: ما الذي يصنع هوية الكاتب؟ هل تلك الشخصيات التي استقرت في داخله منذ زمن طويل وظلت ملامستها من أصعب اللحظات؟ أم ايمانه بقضايا داخله.. تشكلها صور إنسانية ومبادئ في مجملها لا تتجزأ ركامها وآلامها يزهر في كل مدينة في العالم. لا جغرافية في الكتابة.. ولكن بها تاريخ.. وفصول.. وبوح.. وايمان.. وقيم ومبادئ، ومصداقية لدواخلك تمتد لساعة الأفق.. وحده «تاريخها» يمشي معنا.. وحده من يحرمنا.. وحده من يبتكر لنا الطريق.. وحده من نستقر داخله هرباً من ذلك الزمن الرهيب علينا.. كما قالها ذلك المبدع المتوهج.. دون شرح أو مقياس للتغيرات..!!