ثمة رؤية عقلانية وفلسفية طرحها الأمير فيما يتعلق بمسألة المحاسن والعيوب وكان محقا في ان تركيز الانسان يكون عادة على النقائص وهي طبيعة النفس البشرية على أي حال، الا انه أكد التزام الحكومة بتلمس القصور في قضايا الإسكان وتوفير فرص العمل والرعاية الصحية وجودة التعليم وكفاءة عمل الأجهزة الخدمية من طبيعة أي شعب وكلّ شعب هو أنه يرنو دائما ويتطلع للاستماع والاصغاء لما يقوله قادته وزعماؤه وأصحاب القرار فيه من منطلق رغبتهم في معرفة كيفية معالجة قضاياهم ومشكلاتهم، وحل همومهم وهواجسهم المتعلقة بالمستقبل وان ينعموا بحاضر كريم ويطمئنوا إلى مستقبل آمن لأجيالهم القادمة. وفي هذا السياق وفي خضم الاحتفال بذكرى يومنا الوطني، ورغم حجم وتنوع الكلمات والخطابات، الا ان كلمة ولي العهد الأمير سلمان جاءت لتمثل محطة لافتة تستوجب منا التوقف عندها لما احتوته من مضامين ورؤى وطروحات مهمة تعكس رؤية القيادة في الشأن الداخلي ناهيك عن مغزاها والهدف منها. على ان المقام هنا ليس بصدد الاطراء، بقدر ما هو قراءة هادئة وتقويم موضوعي لما تضمنته الكلمة من آراء وعناصر جديرة بالتحليل والتفكيك. لقد عرف عن الأمير سلمان بانه مُقل جدا في أحاديثه وتصريحاته الاعلامية، ولا يحبذ الظهور الإعلامي كثيرا، لقناعة راسخة لديه لا يلبث ان يكررها دائما في ان الأفعال هي التي تتحدث عوضا عن الاقوال، ومع ذلك فانه عندما يتحدث فإنه بلا ريب يضع النقاط على الحروف ويغلق الأسئلة المعلقة. يصفه السعوديون بأنه أمين العائلة وحاميها ومستشار الملوك الراحلين وسيد الوفاء، وصمام أمان للبلاد، فهو رجل دولة ساهم في بناء دولته، وسياسي مخضرم. يؤمن بمعادلة المواءمة بين الأصالة والمعاصرة أي الانفتاح مع التمسك بثوابت الدين والدولة. خبير بخفايا تاريخ المنطقة ومستوعب لمعادلاتها وتوازناتها ومدرك لحساسية الجغرافيا وتعقيداتها. ولذا تجد انه من النادر جداً أن ترى غالبية الناس يتفقون حول شخصية واحدة، غير أن شخصية سلمان تفرض على الجميع الإعجاب بها واحترامها والالتفاف حولها رغم اختلاف مرجعياتهم الفكرية والاجتماعية والثقافية. كان الأمير مرتهناً الى حيز المسؤولية في الاعتراف بالتحديات والمشاكل التي تواجهها السعودية، مبدياً قدرة لافتة في تشريحه لمجمل القضايا المثارة، فكان مقنعا وواضحا في استعراضه لأهم المواضيع والتي كانت حديث المجالس والمنتديات والاعلام الغربي، حيث لم يتردد الامير في البوح بشفافية ليضع الأمور في نصابها. كانت الرسالة الاساسية تؤكد أهمية الاستقرار في منطقة عرف عنها عدم الاستقرار مشيرا إلى انه "يحل اليوم الوطني الثالث والثمانون ونحن ننعم بالأمن والأمان والتنمية والاستقرار تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود الذي سخر طاقات الدولة وأجهزتها ومواردها بعزم وإصرار وتفان لخدمة الوطن والمواطنين". والأمير محق في ذلك، فالسعوديون يتفقون في أن هذا العهد الزاهر الذي نعيشه، يكشف لنا عن إنجازات المليك رجل الإصلاح، وما يتمتع به من شعبية جارفة لدى شعبه وما له من تأثير-حفظه الله -كرمز وقائد وزعيم أصبح محل اهتمام وأنظار العالم. ولذلك تعلم أن السعودية، وهي في حركتها الدائبة المليئة بورش العمل والهيكلة، أمامها تحديات جسيمة سواء في الداخل أو الخارج. يأتي في مقدمتها أوضاع داخلية تناولها الأمير بالتفصيل، وظروف إقليمية تستدعي الحذر والتأهب ومناخ عالمي جديد يتطلب الانخراط فيه. ولذا هو يقول بأن "استقرار الدول هو أهم عوامل الازدهار والرقي الحضاري، والتاريخ شاهد ومعلم، فهو يرشدنا إلى أن حضارات الأمم تبدأ دائماً من استقرار الدولة واستقرار الحكم، فالاستقرار يضمن تطبيق القوانين ويحفظ الحقوق، وهو الذي يهيئ بيئة العمل والإنتاج الآمنة التي تحفز النمو وتشجع على الاستثمار". وها نحن اليوم وبعد مرور ثمانية عقود على تجربة عبدالعزيز الوحدوية، نلمس تحول هذا الفكر الاجتماعي، وتلك الفلسفة السياسية إلى دولة مؤسسات وقوانين وتشريعات رغم بعض المصاعب والمحاذير، لتصبح دولة عصرية وحديثة في إطار من المحافظة والتفاعل مع المتغيرات وذلك إدراكا من القيادة أن ذلك يمثل ضرورة استراتيجية لابد من تنفيذها. ولعل اللافت في تشديده أن "ضمان الاستقرار وديمومته لا يأتي بالتمني بل بالعمل الجاد لإقامة العدل بعمل منهجي منظم يقوّي مؤسسات القضاء وأجهزة الرقابة ويفعّل أدوات رصد الفساد ويعزز مبادئ النزاهة وينشر ثقافتها ويضمن بالتشريعات والأنظمة والقوانين حقوق المواطنين وكرامتهم وأموالهم وأعراضهم". ولغة الأمير تنم عن حزم وعزم على مواجهة وباء الفساد الذي استشرى في بعض الأجهزة الحكومية ما يعني أهمية إعادة النظر في تفعيل قوانين مكافحته. هذا التوجه الذي يطرحه الأمير يدفع باتجاه دولة المؤسسات وتكريس مفهوم العدالة الاجتماعية، وحماية حقوق الانسان كما جاء في النظام الأساسي للحكم. كما كان صريحا ومباشرا في رسالته لأولئك الحاقدين الذين راهنوا -كما قال- "على زعزعة استقرار دولتنا خسروا من الجولة الأولى، وكل من راهن على ضعف ولاء المواطنين لبلدهم فشلوا منذ اليوم الأول، نسي هؤلاء كلهم أن ركائز الدولة مشتركة مع قيم الأفراد، وأن هذه الدولة قامت على سواعد أجدادهم فصنعوا الوحدة وحافظوا عليها". ولي العهد هنا يشدد على معادلة وطنية ما بين الحاكم والمحكوم أدت الى تعزيز الوحدة الوطنية وتعميق مفهوم المواطنة حيث المساواة فلا تمييز ولا تفرقة ولا عنصرية. فالوطن للجميع، وان الفشل كان من نصيب المراهنين على اختراق نسيج المجتمع. إن الذاكرة هنا تعود بنا الى صور كشواهد على هذه الحقيقة وتحديدا ما سمي بيوم "حنين"، عندما طالبت أصوات نشاز بالخروج للتظاهر. لقد قدم السعوديون حينذاك نموذجا فريدا على ترابط الدولة وتماسكها، حيث أحبط الشعب مخططات من حاولوا العبث بمقدرات البلاد وامنها، فكانت بمثابة وقفة اصيلة برهنت عن رفضها للإرجاف والحملات المسعورة والافتراءات العدائية. وبما ان السعودية دولة مثلها مثل غيرها، تعيش تحولات داخلية، وتتأثر بالمتغيرات الدولية الا ان الفرادة تكمن في قدرة السلطة السياسية على التعامل مع ما يحدث حولها بالهدوء والتأني، ناقدة لذاتها، متفاعلة ومتوازنة ما بين مصالحها وإرثها الديني والثقافي وهذا ما يجعلها بعيدة عن الجاهزية والارتجالية. وفي هذا السياق يقول الأمير" نحن جزء من هذا العالم لدينا تحدياتنا التي نواجهها بشجاعة، نتشارك نحن والمواطنون الأوفياء في الحل والتطبيق، نجتهد ونعمل وبالله التوفيق، لكننا لا نتجاهلها ولا نتركها خلف ظهورنا، نسعى للتغيير متى ما كان الوقت ملائماً والفرصة والموارد متاحة، ونوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الوطن دون جور أو أضرار". ولعل المتابع للمشهد السعودي يلحظ أن ثمة حراكاً لافتاً ونقاشات جريئة وتنويرية غير مسبوقة طالت ملفات اجتماعية ودينية وثقافية، وإن كان هذا لا يعني انه لا توجد ملفات ومشاكل تحتاج إلى حلول مثلها مثل أي بلد، فالتطرف والفقر والبطالة ووضع المرأة ومسألة فك الاشتباك بين ما هو ديني، وبين ما هو اجتماعي، كلها قضايا تحتاج إلى معالجات. الأمير يشير بذكاء وحنكة الى مسألة الوقت وتوازن المصلحة من اجل إحداث التغيير وهنا يبرز دور القيادة السياسية حيث ترى شيئا قد لا نراه، وهو ما يدعونا للتفاؤل بالمستقبل. غير ان ثمة رؤية عقلانية وفلسفية طرحها الأمير فيما يتعلق بمسألة المحاسن والعيوب وكان محقا في ان تركيز الانسان يكون عادة على النقائص وهي طبيعة النفس البشرية على أي حال، الا انه أكد التزام الحكومة بتلمس القصور في قضايا الإسكان وتوفير فرص العمل والرعاية الصحية وجودة التعليم وكفاءة عمل الأجهزة الخدمية مطالباً منحها الوقت والفرصة لتقويم أدائها، ومؤكدا قبول النقد البناء الذي يساهم في التطوير لا الذم الذي يستهدف الأشخاص. وهذا يؤكد عزم القيادة التي آلت على نفسها ضرورة بناء دولة عصرية حديثة على الاستمرارية في مشروع الاصلاح والمشاركة الشعبية من خلال رؤية تستشرف المستقبل وتنبئ بمرحلة جديدة أكثر فعالية وإنتاجية، وذلك إدراكًا من القيادة السعودية بضرورات الدولة والمجتمع، ما يجعلها تحرص على تبني أية أفكار أو مقترحات للتحسين والتطوير. كما ان المثير للاهتمام أيضا هو تركيز ولي العهد على فئة الشباب التي تحتل اليوم كما قال "المساحة الأكبر والاهتمام الأكبر من لدن خادم الحرمين الشريفين أيده الله الذي تؤرقه قضاياهم، وهمومهم كتوفير الوظيفة اللائقة، ورفع مستوى الدخل وتيسير السكن الكريم والرعاية الصحية الكاملة لهم ولأطفالهم ولهذا فإن التركيز والاستثمارات في المشاريع الحالية والخطط القادمة تتوجه لمعالجة هذه القضايا والتغلب على هذه التحديات". ما يعني أن ثمة برنامج عمل وخارطة طريق تسير عليها الدولة للتعاطي مع هذا الملف الاستثنائي لاسيما وان هذه الفئة تتجاوز نسبتها 65% من شعبها فضلا عن أن الاعتراف بالمشكلة هو نصف الحل. إن حديث ولي العهد رسالة تترجم هذا العقد الاجتماعي في السعودية والعلاقة الوطيدة ما بين القيادة والشعب والتي شهدناها في مواقف عدة، وتؤكد بأن الوحدة الوطنية لا يمكن المساس بها، ما يعني الاستقرار لتجربة وحدوية تجاوزت التصنيفات والمسميات، فوحدت وطنا متعايشا، بلا انتماءات ضيقة..