وهل للحياة فن؟ نقول: نعم.. بل هو أهم الفنون.. والمراد بالفن هنا هو (الجمال) فإذا قيل (فن الحياة) فهو اختصار لمعنى: ما هي السبل التي تجعل حياتنا جميلة؟ أو ما هي السبل التي تجعل حياتنا أكثر جمالاً؟ بهذا المعنى فإن (فن الحياة) هو أهم الفنون.. لأنه هو المقصد.. هو الغاية بعد طاعة الله عز وجل.. وطاعة الله أصلاً هي الركن الأول والأعظم في تجميل الحياة.. إن هناك: (فن جمع المال) و (فن النجاح) و (فن الحياة الاجتماعية) ولكن (فن الحياة) هو أبوها جميعاً.. وغيرها من الأشياء الجميلة.. فهو - إذن - أبو الفنون.. (كل الصيد في جوف الفراء)!. ٭٭٭ وفي اعتقادي أن فن الحياة يقوم على أشياء نتركها.. وأشياء نعملها.. ويتلخص الأمر الأول في ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. فما من شيء أقدر منها على تقبيح الحياة.. وتنغيص الحياة.. وتدنيس السمعة.. وتعذيب الضمير.. وتجويع الروح.. وتقصير العمر.. ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن هو اللوحة الأساسية التي يستطيع بعدها الإنسان أن يرسم لحياته فناً جميلاً.. وبدون ذلك لا لوحة.. ولا أساس.. لا شيء غير الضياع.. ٭٭٭ وبعد ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن هناك أشياء أخرى يمهد تركها لجعل حياتنا أجمل كما يمهد تخليص الأرض من الشوائب والصخور والنباتات الضارة لزراعتها بما ينفع.. من تلك الأشياء السالبة والتي يحب (فن الحياة) تركها واجتنابها: ٭ مجالسة الثقلاء والساخطين على الحياة: إن القول في التفضيل بين العزلة والاجتماع يطول، وليس له مقياس ثابت سوى نفسية الإنسان وما الذي يجعله أكثر انشراحاً وسعادة: العزلة أم الاجتماع؟ ولكن، وفي كل الأحوال، ولهواة الاجتماع بالذات، أما هواة العزلة فقد اختصروا المسألة برمتها، في كل الأحوال فإن الانطباع الذي يخرج به الإنسان بعد اجتماعه مع هؤلاء أو أولئك هو الذي يحسم الأمر: بعض الناس كلما اجتمعت معهم خرجت ونفسك منقبضة وأعصابك متوترة فهؤلاء يحسن بك تجنبهم تماماً.. الدنيا واسعة والناس «واجد»! وبعض الناس كلما اجتمعت بهم خرجت ونفسك مرتاحة وصدرك منشرح فالاجتماع لهؤلاء جزء من فن الحياة، وترك أولئك مكسب.. على ألا يطلب الإنسان المستحيل فيريد أن يخرج من كل اجتماع بهؤلاء وهو سعيد، فدوام الحال من المحال، وإنما المهم الغالب.. إذن فإن اجتناب مجالسة ومخالطة الثقلاء والساخطين (والنجسين) يزيدنا راحة واستمتاعا بالحياة.. كذلك الحمقى يحسن تجنب مصاحبتهم ولو كانوا في هوانا، فإن الأحمق بئس الصاحب: اتَّق الأحمقَ أن تصحبه انما الأحمق كالثوبِ الخَلَق كلما رقعت منه جانباً حرّكته الريح وهناً فانخرق وإذا جالسته في مجلس أفسد المجلس منه بالخرق كحمار السوء إن أشبعته رمح الناس وإن جاع نهق! أو كعبد السوء إن جوعته سرق الجار وإن يشبع فسق أما مخالطة المشبوهين فالبعد عنها أمر محسوم، الخلاف في غيرهم فقط! ٭ المشكلات المالية بأنواعها، بما فيها الديون والبيوع المشكوك فيها والكفالة التي أولها شهامة وأوسطها ندامة وآخرها غرامة في غالب الأحوال.. إن تدبير الإنسان لأموره المالية دليل العقل، وقد ورد في الحديث (لا عقل كالتدبير).. التدبير الحسن الحلال طبعاً.. ٭ البعد عن البخل وعن الاسراف أيضا، الأول ممقوت هو وصاحبه، ولوحة حياته سوداء، والثاني يفسد طعم الحياة ويذهب بالمال، فإن السعادة تحتاج لبعض الحرمان، وإن العاقل لا يغتر بمال ولو كثر، وإن المنهج السليم هو اتباع قول الله عز وجل: {ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا}. سورة الإسراء - الآية 29. ٭ ترك المجادلة وخاصة مع العامة، يقول معاوية (المروءة عدم مجادلة العامة) وإذا ذهبت المروءة لحقتها السعادة. ٭ حفظ اللسان عما يضر صاحبه، ومعاوية نفسه يقول (أحمق الناس من يقول كلمة ان بلغت ضرته وان لم تبلغ لم تنفعه) قلت: اللسان غير الموزون يضر صاحبه حتى لو لم يبلغ كلامه، لأنه يؤذي الضمير ويجعل الإنسان يندم ويغضب على نفسه.. والأمور السلبية التي يحسن اجتنابها كثيرة ومعروفة.. إن كل إنسان أعرف من غيره بالأشياء التي تجعل حياته فناً جميلاً.. ويحسن به أن يسعى إليها بتصميم طالما كانت مباحة.. ولكن هناك أموراً عامة لا تكون الحياة بدونها جميلة حقاً وأهمها: الحب: حبك لوطنك الذي تعيش فيه ولزوجتك التي تعاشرها، ولأقاربك وأصدقائك هو حجر الأساس في جمال الحياة.. فالناس هم أجمل ما في الحياة.. والذي يكره الناس - خاصة الذين يعاشرهم - يبشر بالتعاسة وقبح الحياة.. ولكن الحب لا يقتصر على الناس.. حب الوطن.. وحب العمل الذي تمارسه.. وحب الأشياء التي تملكها كسيارتك ومنزلك بمعنى أنك راض بها وعنها ولو كانت أقل من غيرك (اللي مهولك لا يهولك) وهو حب داخلي صامت راض لا تفاخر فيه ولا يحزنون.. توافق مع ما تستطيع.. من أقدم تعريفات السعادة التي قرأتها قولهم: (السعادة أن يكون عملك هوايتك وزوجتك حبيبتك).. ٭ غني النفس: السعي الجاد لجمع المال بالحلال أمر طيب ومرجلة وفيه منفعة لوطنك ومجتمعك فوق أنه ينفعك، لأن جمع المال بالحلال يعني (الإنتاج) وهذا مفيد.. فالإنتاج بحد ذاته سعادة.. ولكن هناك فرقاً كبيراً بين من يجد في جمع المال ونفسه غنية يرضى بما قسم له بعد أن يبذل الجهد، وبين رديء النفس المشرف دائماً (المشفوح) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا المال خضر حلو، فَمَنْ أخذه بإشراف نفس لم يُبَارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى».. وقال عليه السلام «ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس). وغنى النفس لا يجعل المال غاية أبداً، بعكس فقيرها، فغنى النفس يحسن العمل وقت العمل ويحسن الراحة والاستمتاع بعد ذلك.. أما الآخر فهو يلهث وراء المال كالكلب.. حتى في فراغه هو يحسب و«يتحسب» ويجمع ويضرب ويركض حتى يسقط في حفرة السكتة القلبية.. ٭ الهواية: إن الهواية هي الفراشة الملونة في حديقة الحياة الجميلة.. إنه لا مشاحة في الهواية.. كل هواية مباحة تريح نفس صاحبها وتلون حياته بالمباهج.. ولكن حين تكون الهواية نافعة فهي أفضل وأجمل بكثير.. ليست هواية القراءة كهواية جمع الطوابع أو جمع الحَمَام.. إن بعض الهوايات - فوق أنها تحملق بك إلى قمم من الجمال - ترفعك وتنفعك وفي مقدمتها القراءة بلاشك.. والقراءة هي أشهر وأجمل هواية في العالم.. والبيت بدون مكتبة منزلية ناقص.. المكتبة هي شجرة البيت الخضراء التي تثمر في جميع الفصول.. ظل وثمر ونسيم ونور وانشراح.. ٭ الصداقة: إن الصداقة من متع الحياة.. والأصدقاء الطيبون يزيدون الوجود جمالاً.. والطقس السييء يُنسَى في بيت الصديق.. والحياة بدون أصدقاء.. صحراء.. والصديق يضرب أفراحك في اثنين، ويقسم أحزانك على اثنين.. ٭ تنويع الاهتمامات: لقد ذكرنا الهواية وركزنا على القراءة.. ولكن لا يعني هذا أن يكون الإنسان (فأر مكتبة) لا يغادرها.. التنويع جميل.. والعصر الحديث زاخر بما يمتع.. هناك برامج تلفزيونية وأعمال فنية تمتع وتنفع.. وهناك مباريات مثيرة.. وأسفار.. ورياضة. وكلما امتلأ برنامج الإنسان بالأشياء الممتعة والمختلفة كان أقرب إلى تلوين لوحة حياته بكل فن جميل.. وعدم الإحساس بالملل الذي هو عدو الإنسان ورفيقه الثقيل.. ومن تعريفات الحضارة انها (ملء الفراغ بما يمتع) وهو ما توفره الحضارة الحديثة بسخاء، فعصرنا الحاضر من أفضل العصور في هذه الناحية: فالكتب متوفرة وزهيدة الثمن، والتلفزيون بدون مقابل، والسفر ميسر وسهل، والعالم كله ينتقل إلى غرفتك إذا أردت، والنت يربطك بالدنيا.. وحسن الاختيار هو التوفيق.. وما التوفيق إلا من الله عز وجل..