غيب الموت أمس - {إنا لله وإنا إليه راجعون} - فهد الإسلام وفهد السعودية وفهد العرب وفهد الإنسانية وفهد الأب وفهد الأخ اجتمعت فيه كل هذه الصفات على تنوعها وعلى ثقلها وعلى مسؤولياتها أرادها الله له كما أرادها لنفسه وأرادتها له الظروف الجغرافية والدولية التي لم تخطئ في اختياره وعلى قدر هممه وطموحاته وقدراته كانت المحن والملمات والاختبارات فكان لا يتجاوز امتحاناً إلا ويتبعه امتحان. محن الفتى تخبرك عن فضل الفتى والنار مخبرة بفضل العنبر نعم كان رحمه الله يزداد مضاء ويزداد عزماً كما كان يثبت في عقيدته الإسلامية وإيمانه بالله إيماناً منه بما جاء في الأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه كان مدركاً منذ نشأته أنه من سلالة أسرة عريقة عظيمة رائدة حملت على عاتقها رسالة الإسلام والمسلمين ورعت شؤونهم داخل أراضيها وخارجها وحرصت على جمع كلمتهم وكم طربت لسماعه كما طرب العالم الإسلامي أجمع عندما قال رحمه الله أن لقب خادم الحرمين الشريفين محبب لنفسه.. لقد كان عزيزاً عليه أن يكنى به على الملأ وكان له ما أراد بإذن الله وتوفيقه.. وإن كانت السمة البارزة التي عرفت بها سلالة أسرة آل سعود العريقة إضافة إلى السمات الأخلاقية الرفيعة الأخرى وهي التي حملتها ورسمت لأشبالها خطاها وأكرمها من سمة وأرفعها من سمة وأفخر بها من سمة هي خدمة الحرمين الشريفين ورفعة الإسلام والمسلمين في السر والعلانية فلا مراء من أن يكنى بها الفهد قولاً إذا كان يؤكدها فعلاً وعملاً كما سار عليه أجداده وآباؤه جزاهم الله عنا خير الجزاء. وقد أدرك بثاقب فكره وعظيم رأيه ورجاحة عقله وقوة بصره وبصيرته التي منّ بها الله عليه رحمه الله وهو خادم الحرمين الشريفين أهمية نشر وترجمة معاني القرآن الكريم إلى مختلف لغات العالم وتوزيعه مجاناً وكان له أيضاً ما أراد بإذن الله وتوفيقه.. وجاء هذا الصرح الكبير يحمل اسمه رحمه الله على مر الزمان وتعاقب الأجيال (مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف) وكما جاء أمره الكريم رحمه الله بعمارة وتوسعة الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة نابعاً من حرصه الشديد على راحة المسلمين الملبين نداء الله عز وجل من جميع أصقاع المعمورة ناهيك عن ما عرف عنه رحمه الله من تعمير وتشييد المساجد وعلى نفقته الخاصة في أغلب بلدان العالم قاصداً بأفعاله النيرة الخالدة وجه الله تعالى غفر الله له. وفهد السعودية فإذا كان التعليم من أهم لبنات بناء الفرد والأمة على السواء فقد كان من توفيق الله له ومن كرم الله على أبناء هذه الأمة أن يكون اختياره رحمه الله أول وزير للمعارف وهو في مطلع شبابه، وعنفوان حيويته لإدراك من ولاة الأمر من نجابته ونباهته وتميز في كفاءته والكل يعلم ما للعلم من أهمية ومكانه كرسالة إسلامية ترفع من مكانة المسلم كإنسان وتزيد من تقربه إلى الله متعلماً عالماً كما جاء في الأثر من أن (العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان) فرعى رحمه الله مسيرة التعليم في بكورها كوزير للمعارف وبقي وفياً لرعايته للعلم والتعليم في جميع مراحل حياته وتقلبه لجميع المناصب التي قدره الله تعالى له توليها فأنشئت الجامعات وتطورت المؤسسات التعليمية وكان الابتعاث للخارج وفقاً لمتطلبات خطط التنمية التي كانت شغله الشاغل طوال فترات حياته إدراكاً منه وكما كان يردد دائماً أن المصدر الأساسي لبناء المجتمع القوي والمتماسك هو بناء الفرد دينياً وعلمياً ولم يكن الابتعاث مقتصراً على بلد معين بل شمل جميع بلدان العالم المتطور لتتنوع مصادر البناء ونما لدى المواطن السعودي حب العلم والتعلم والتنافس عليه والشجاعة في طلبه من أي مكان كان طالما أن تكاليف الدراسة مهما كانت تتكلفها الدولة وترعاها حفظها الله وحفظ ولاة أمورها. وعلى المستوى الداخلي الدستوري والإداري فإنه بالرغم من أن دستور المملكة الثابت والتي أسسها الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه هو الشريعة الإسلامية فإنه رحمه الله حرص على توضيح العلاقة النظامية القائمة بينه وبين الرعية فأصدر النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق.. (يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس وأبناء الأبناء ويبايع الأصلح منهم للحكم.. ومن جهة أخرى إنه يتم وفق نظام البيعة الإسلامية وهي اتفاق بين أولي الأمر والأمة) ليكون انتقال الحكم بيسر وسهولة بعيداً عن الفتنة التي نهى عنها الإسلام. وفهد العرب ولقد أثبت المحن والتجارب التي عايشها يوماً بيوم مع رعايا أمته أولاً ورعايا الدول العربية المجاورة إنه بلا منازع رجل المواقف الصعبة التي لا يثبت أمامها إلا قوي الجنان وقوي الإيمان بالله عز وجل أولاً وأخيراً يستمد منه العزم والصبر والمخرج امتثالاً لقوله تعالى {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} فكانت له على ذلك ولا غرابة الشجاعة الفكرية التي أجمع علماء النفس ودهاة السياسة على أنها من أغلى رتب الشجاعة وإن غزو الكويت وسعيه الحثيث والصبور والحكيم على تحريرها بالطرق السلمية حرصاً منه غفر الله له على وحدة الأمة العربية والإسلامية وعدم اللجوء للقوة في تحريرها إلا بعد أن استنفد جميع الطرق السلمية يعتبر دليلاً صريحاً على صحة ما نقول والتي سوف يسجلها له التاريخ السياسي بأحرف من ذهب. ولست مقارعاً جيشاً ولكن برأي يستضيء ذو القراع كان داعية للسلام من الطراز الأول سلام الأقوياء لا سلام الضعفاء السلام المبني على العدل والحق والمساواة لا يساوم في ذلك ولا يتراجع ولا يتخاذل سيرته في ذلك سيرة المسلم القوي وسيرة الأبي الذي ينحدر من سلالة آل سعود دعاة الخير والعدل والسلام (وينشأ فتى الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه) فجاءت مبادرته للسلام ترجمة لما يحمله رحمه الله من وعي وإدراك ومسؤولية من دور المملكة على الصعيد الإسلامي والدولي. وفهد الأب وفهد الأخ لقد أسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه دعائم حكمه ورسمها لأشباله من بعده على أساس العلاقة الأبوية بين المواطن والحاكم وأسس على ذلك سياسة عرفت بالغرب بسياسة الباب المفتوح وذلك ليتم تبادل الرأي وفقاً لأمر الله عز وجل: {وأمرهم شورى بينهم}، {وشاورهم في الأمر} ولا عجب إن ردد الفهد رحمه الله وأكد ما قاله أسلافه الكرام ووالده العظيم طيب الله ثراه إنني الأب لصغيركم والأخ لكبيركم.. نعم حمل نفس الرسالة وأدى نفس الأمانة ومن هنا تعددت جوانب عبقريته وتنوعت عظمته فهو الكبير للمسائل الكبيرة لا يتردد في حزمها بكل ما أوتي من قوة حفاظاً وتثبيتاً للشريعة الإسلامية وهيبة الدولة الإسلامية الكبيرة التي وهب نفسه لخدمتها كما أنه الأب الحنون للصغير من رعاياه يهتم كما مر ذكره بتربيته وتعليمه على أسس دينية وعلمية ليساهم في بناء أمته الإسلامية ويكون له الاحترام والتقدير على المستوى الوطني والدولي وكان لم ما أراد بتوفيق الله وإرشاده رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عنا أحسن الجزاء بما قدم لدينه ولوطنه ولامته وللعالم أجمع، وأسأل الله أن يلهم ذويه الكرام والأسرة المالكة الصبر والسلوان وأن يسكن فقيدنا الكبير فسيح جناته وأن يطيل في عمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبدالعزيز فهما ولله الحمد خير خلف لخير سلف. {إنا لله وإنا إليه راجعون}