كان هناك ما لا يقل عن خمسين كيساً بلاستيكياً.. دون مبالغة.. تتكوم عند آلة تفتيش امتعة المسافرين اليدوية في أحد المطارات شرق آسيوية.. تحفل بها أسرة سعودية وتقف حارسة عليها.. عاملتهم المنزلية في منتهى الجدية ونحن نقف وراءهم منتظرين الدور لا يسعنا إلا ان نلاحظ. - خمسون؟ - ربما سبعون.. - ولا أحد يقول شيئاً.. وتمر دقائق طويلة والجميع غير مصدق ويشعر بالحرج بالنيابة.. ألم يكن جمع الأشياء في حقيبة أو حتى كرتون أفضل من هذا المنظر غير الحضاري؟ ما علينا.. ولكن الذي اصبح علينا ومحسوبا كخليجيين هو عندما اطاحت الخادمة دون قصد بعضاً من هذه الأكياس فتناثرت اشياء مهمة على ما يبدو.. فانصب الصراخ والسب والشتم العلني عليها وأمام خلق الله من مواطنين وأجانب.. معروف عنهم التهذيب خاصة في الأماكن العامة. وشعرنا بالخجل بالفعل.. فالمرأة المتشحة بعباءتها وتلبس البرقع عنوان واضح لهويتها وقد تلبسها شيء من الغضب الغامر.. فأخذت تصرخ.. - ما يكفي انها غلطانة بعد قليلة أدب؟! وهرولنا بسرعة تجاه الآلة الأخرى ثم إلى مكان أبعد.. لكن المشهد للآخرين سوف يبقى لاشك في مخيلتهم وينطبع. ٭ ٭ ٭ كان الطفل العربي الملامح يقف أمام كونتر البوفيه في بهو السينما ويسترسل امراً.. في طلباته لأربع أشخاص.. ليسوا معه.. 4 من كل شيء «لا أدري كيف كان بإمكانه ان يجمعها بمفرده خاصة مع أكواب وليس العملاقة». وأتت له الفتاة البائعة ببطاطس شبس غير مطلوبة فنهرها بحركة من يده وطلب نوعا آخر «اذهلني تمثيله دور السيد الآمر» وعندما انتهت قائمة الطلبات وجاء صوت الفتاة الرقيقة بالمبلغ المطلوب وجدنا انه يفتح محفظة نقوده ويخرج منها بعض الأوراق المالية ويرميها في وجه البائعة بشكل هجومي!! لم يضعها على الطاولة.. ولم يسلمه اياها وإنما رمى بالنقود في غضب مسرحي غير مبرر!! وتكورت ملامح الفتاة في صدمة واضحة وجاءت أخرى لنجدتها والكل في حالة صمت ولم استطع مقاومة التدخل.. فاقتربت من الطفل «لا يتعدى الحادية عشرة» وسألته ان كان يتكلم العربية فوجئ بحديثي إليه ولكنه أجاب نعم.. فسألته من أين هو.. فقال من السعودية.. يا ذي الفشيلة! - ومن وين بالسعودية؟ ذكر اسم مدينته.. ووجدت انني اتحول إلى خالة تحدثه عن آداب التعامل.. ما يصير حبيبي نرمي الفلوس وفي وجه الناس.. ماذا يقولون عنا؟ الواقع ان وقفة الصبي اعتدلت وشعرت باهتمامه وأخذت ايماءة رأسه بالموافقة شكل آخر من التفاعل غير الذي بدا عليه منذ قليل مع الفتاة الغريبة.. ومع ذلك فقد تأكد لي بأنه يقتبس دوراً من آخر.. ربما من البيت.. فالبيت هو المحرك الأساسي للتطبع والتعلم بالمشاهدة.. فماذا هو المفهوم الذي يتلبس بعضنا ليجعلهم يعتقدون بفوقيتهم عن بقية البشر حينما يسافرون ويتفاعلون معهم؟ أليس هو الجهل الاجتماعي.. ومتى يا ترى نتحرر من سلبيات مفاهيمنا الإنسانية.. نرقى.. نتعلم ونعلم ابناءنا بأن تصرفاتهم تدلل على ملامحنا وبأنه ليس من اللائق ان نتعالى على الآخرين.. هل استعير اسلوب تربية قديم حكت لي عنه صديقة عربية عندما كانت طفلة في مدرسة داخلية أجنبية وهناك كانت المدارس تقوم بدور التربية بدلاً عن الأهل الغائبين؟ تقول.. كثيرون من ابناء اليوم لا يعرفون معنى العقاب الذي كنا نتلقاه في حالة شتم أو قذف احد بكلمة نابية.. أقلها ان نمضي اجازة نهاية الأسبوع في غرفنا لنخط كلمات اعتذار بمئات المرات ونعد فيها أنفسنا بألا نستخدم كلمات نابية تجاه أحد.. اذكر انني تجرأت ذات مرة وكنت في التاسعة وقلت لزميلة لي shut-up «اخرس» فعوقبت يومين متتاليين حيث جلست اكتب المطلوب وبالألوان ايضاً للتأكيد بأنني لن استخدم هذا التعبير مرة ثانية.. النتيجة.. انني بالفعل لا استطيع التفوه بها ولا حتى مازحة.. العبرة؟ ان التعامل الحسن هو مرآة صاحبها وان بعض الأبناء يحتاجون قدوة التعامل من بيوتهم كما انهم كبعض الكبار يحتاجون تدريبا عمليا على اننا فعلاً سفراء أوطاننا بالخارج على مستوى إنساني والدوريستحق ان نلتزم من أجله..