اختارت "زبيدة" 28 سنة الطريق الخطأ عندما لجأت للقضاء لتكسب حكماً يسمح لها بالزواج ممن أرادته ورفضه أهلها بسبب عدم الكفاءة، فالقضاء لدينا لازال يعتبر مسألة كفاءة النسب فيفرق لأجلها ولو بعد الزواج فكيف والمسألة في شأن خطوبة، وكما هو أمر مشروع معمول به في مدرسة الفقه فهو كذلك في القضاء، زبيدة بعد تعنيف وعضل أخيها وأهلها لجأت لدار الحماية في عسير، ورفعت للقضاء قضيتها، لكنها صدمت من الحكم الذي جاء لصالح العاضل ضد المعنفة المعضولة، زبيدة لم تستسلم للحكم وتنوي الاستئناف لتبطله وتحصل على حقها في اختيار زوجها. كفاءة النسب هي مجرد انشداد رجعي مأزوم بالعنصرية القبائلية العربية، يقيد حق اختيار المرأة ويسلمه لإطار فقهي ضيق يرشح بالعنصرية والتعصب بل وبادعاء تكذّبه المقاصد لازال القضاء ينبش الورق الأصفر ليحكم به واقع اليوم، فيستمر الوعي بالواقع من خلال معايير تراثية تقليدية، معايير انتهت صلاحية استعمالها منذ قرون، ويبقى السؤال إذاً أين حق المرأة من مشروع الحماية من الإيذاء؟! أليس التردي الحقوقي هو الممهد لمزيد من الإيذاء واستمراء الإيذاء؟! كفاءة النسب هي مجرد انشداد رجعي مأزوم بالعنصرية القبائلية العربية، يقيد حق اختيار المرأة ويسلمه لإطار فقهي ضيق يرشح بالعنصرية والتعصب بل وبادعاء تكذّبه المقاصد، فأستاذ الفقه المقارن د. محمد النجيمي يدعي بأن الفقهاء اعتمدوا الكفاءة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر العرب عليها، وهو تعد مكشوف تقوم بضده الأدلة من السيرة النبوية الكريمة، أما الغرض منه فالدفاع عن فقهاء العصبية القبلية، يتبنى النجيمي رأي أحمد بن حنبل في تكافؤ النسب فيقول: في حال تَمسّك الأولياء (وهم عصبة المرأة الأب والإخوة والأعمام وأبناؤهم) بشرط الكفاءة فإن للقضاء فسخ العقد! وهو ماحصل وما زال يحصل للأسف. لا نستطيع فصل تفاصيل الحكم التكليفي لاعتبار الكفاءة في الزواج عن نظرة الفقهاء للمرأة، من حيث اعتبارها مولاة لا تملك من حق حريتها شيئاً، فهي دائماً تحتل موقع المفعول به لا الفاعل في كل شؤونها، فلا تكاد تقرأ فعلاً يخص المرأة في كتب الفقه وتقع المرأة فاعلاً له، يقول فقه العرب القبائلي في حق كفاءة النسب: ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يجب اعتبارها" أي كفاءة النسب"، فيجب تزويج المرأة من الأكفاء، ويحرم تزويجها بغير كفء، وذهبوا إلى أن الكفاءة تعتبر في جانب الرجال للنساء، ولا تعتبر في جانب النساء للرجال، لأن المرأة هي التي تستنكف لا الرجل، فهي المستفرشة والزوج هو المستفرش، فلا تلحقه الأنفة من قبلها، إذ أن الشريفة تأبى أن تكون فراشاً للدنيء والزوج المستفرش لا تغيظه دناءة الفراش، وكذلك الولد يشرف بشرف أبيه لا بأمه. والزوج الشريف لا يعيّر إذا كانت زوجته خسيسة" اللغة - كما هو حال العبارة السابقة - تتعدى التعبير عن الحال لتكشف بأسلوبها مكانة المتحدث عنه، دعك من الألفاظ الظاهرة إلى اللغة الاعتبارية المؤصلة للدونية القاهرة والتراتبية العنصرية، فبمعيارية اللفظ لا يمكن أن تضع اللغة الرجل مكافئاً مساوياً للمرأة في أمر مشترك بينهما كالزواج، فيأتي لفظ"تزويج المرأة" كدال معادل للتبعية المطلقة لا الفاعل للزواج، يقابله حرية مطلقة للرجل، ويضيف هذا المعيار الأهوج "عنصرياً" بعد المواربة المنافق ليصور المذموم ممدوحاً والعكس بالعكس، فيجعل الحرية الاختيارية للرجل مذمة، بينما عبودية الحق وتعقيده وفاشية إطلاقه المتعدية لسواه منّة وفضلاً للمرأة.. فإذا أضفنا ألفاظ "الخسيسة والدنيء" أمكننا قراءة الشتائم في أجوائها الهوجاء المفارقة لحس الإنسان وكرامته، إلى طلب شرف عنصري جاهلي يقسم الناس لقسمين: أصحاب دماء نبيلة"قبلي"، وغير نبيلة"غير قبلي"، ويبيح إزاءها لأفعال مبطنة؛ التكبر والازدراء المفضي إلى الكراهية، بتمرير أخلاقي يجافي الحق بالمداهنة والمراء. اللغة الفقهية الموروثة وهي تتماهى مع الذكور تضيف بعداً مشاعياً للحق مع المرأة، وتؤطره بالرؤية العامة لها "العار"، ففي الشأن نفسه"تكافؤ النسب" يقول التراث (فهي حق للمرأة والأولياء كلهم القريب والبعيد حتى من يحدث منهم بعد العقد لتساويهم في لحوق العار بفقد الكفاءة) فالمرأة عار لذلك تصرفاتها ارتباطية فتلحق العار بغيرها، ولغيرها "الهاء تعود لمشاعية الأولياء الذكور" وحقهم بفسخ العقد دفعاً للعار!! (فلو زوجت المرأة بغير كفء فلمن لم يرض بالنكاح الفسخ من المرأة والأولياء جميعهم)"زوجت"فعل مبني للمجهول، لأنها لا تفعله بنفسها، بل بولاية ذكورية تشمل دائرة من يلحق بهم العار! (بيان لمن لم يرض فوراً وتراخياً، لأنه خيار لنقص في المعقود عليه أشبه خيار العيب، ويملكه الأبعد من الأولياء مع رضا الأقرب منهم به ومع رضا الزوجة دفعاً لما يلحقه من لحوق العار) المعقود عليه: المرأة، والعار والعيب ملحقات تحضر بحضور المرأة في الصورة، فأي بعد للعار والعيب في أمر حلال؟! هذا سؤال لا يحضر في ظل هذا المحفل العنصري البذيء. يقول: (يملك الفسخ الأبعد حتى لو وافق الأقرب، وترتيب الأولياء، الأب ثم أبوه ثم الابن وإن نزل ثم الأخ لأبويه وابنه كذلك ثم الأخ لأب وابنه كذلك ثم العم الشقيق وابنه كذلك ثم العم الأب وابنه كذلك، ثم المعتِق أو الولي أو الوكيل.) كتاب كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي، هذه الكتب مصانة عن النقد فضلاً عن طلب إيقاف التعلم من مدّها العنصري. وفي عالم الحديث هناك بعض أحاديث مكذوبة وموضوعة لمجرد تمرير عنصرية تكافؤ النسب، فقد سئل أحمد بن حنبل في هذا الخصوص عن حديث مكذوب كيف تأخذ به وأنت تضعفه قال العمل عليه، يعني أنه يوافقه لموافقته العرف) وكما تقفز الأعراف والعادات على الشرع تقفز على الإنسان، ولازالت كتب التعليم في مادة الفقه للصف الثالث ثانوي تؤكد هذه العنصرية في شروط الزواج فيحتل كفاءة النسب الشرط الخامس له، في إشارة تنم عن الوقوف على نقطة لا إنسانية في خط الزمن، تنأى عن النقد الإنساني وتحاط بسياج قداسة الموروث. وبالنظر لاستخدام التراث يحضر الاستعداد النفسي للقبول العنصري في تكافؤ النسب بشدة فتقدم له فروض الولاء والانقياد، فقياساً على المذاهب الأخرى يعتبر المذهب المالكي بالذات المذهب الوحيد الذي يرفض التكافؤ على أساس النسب بل وينبذه من منطلق ديني مقاصدي، وهو الأقرب نصاً وروحاً وعقلاً للمبادئ الإسلامية بشهادة تكاد يكون مجمع عليها من الفقهاء، ومع ذلك يعرض عنه إلى سواه، مما يؤكد جاهزية النفوس لتبني الرأي السائد المحافظ على الأعراف والعادات وإن خالف المقدس.. وهو توجه يضاف لعنصريته العربية القبلية المشهورة تعصبه المذهبي. في القراءة العلاجية لمواجهة العادات والأعراف اللا إنسانية علينا وفي معرض الاحتكام إلى الحق أن نعترف أولاً أننا لازلنا نعيش أسرى صور اجتماعية جاهزة تشكل بحكم البداهة قدراً بينما هي في العمق قيد جارح ضد الحرية والعدالة، وأننا إن رغبنا التغيير الذي يتغيا الإنسان أن نقيم الوعي بالإنسان أولا ونعمل على استنبات بيئة مدنية حديثة يستثمر فيها مشاريع الأنسنة وتحرير المرأة من قيود المتفيقهين، فعتق المرأة انعتاق للإنسان، وهي مشاريع تمتد لمجالات الوعي والمعرفة والواقع وتتطلب جهداً مؤسساتياً ضخماً يؤدي دوره الإصلاحي في التعليم والإعلام والقضاء، يحاكم الولاءات المفضية إلى الازدراء أو الكراهية أو لكليهما ويردها لطريق الحق؛ طريق المحبة والاحترام المتبادل، فالمشاريع التي تناهض المألوف فتسعى لتمكين الإنسان وتحقيق كرامته على مستوى راق من الحرية والمسؤولية هي مشاريع نهضوية توازن بين التنمية ومتطلبات العصرنة، فتوفر بيئة حقوقية قانونية تحفظ كرامة الإنسان عن الابتذال العشوائي لمشاعية لا قانونية وبذات الوقت تنمي الوعي الجمعي بحقوق الآخرين على مستوى المساواة والعدالة، وأفقية الإنسان في هذه البيئة الاستصلاحية هي الملتقى؛ ملتقى الوعي بالحقوق وملتقى نيل الحقوق. إنه ومن واقع استخدام الدين لمصلحة السياسة وبشكل يتدثر بالنفاق والمراء، يهاجم التقليدي المتشدد كل أشكال توجه الوعي الأخلاقي في بناء الإنسان لمصلحة الإنسان، بادعاء الدفاع عن قداسة الدين، وهو إنما يخشى أفول نجمه ويدافع عن وجوده المتعين في الواقع كما هو متعين في الوعي الجمعي، لكن الدين يسير في رحاب المساواة والعدل، ويتطور في وسائله بالتزود من نبعيهما الصافيين بتطور العصر، فمده الإنساني المبارك لا توقفه دعاوى المتفيقهين.