مما هو معلوم بالضرورة من تاريخ الفكر السياسي, قديماً كان أو حديثاً, أن التعالي بالسياسة,(= تسييس الدين),لا بد وأن يؤدي إلى تشويه الدين من جهة, واستبداد السياسة من جهة أخرى! الدين الذي نتحدث عنه ليس هو الدين في روحانيته كما أنزله الله جل شأنه على رسله, وأمرهم بتبليغه إلى الناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور. ما نقصده بالدين في علاقته بالسياسة, هو تحديداً ما تقوم به الأحزاب الأصولية في طول البلاد الإسلامية وعرضها, من تأويل لنصوصه قصد جرها عنوة إلى ميدان السياسة, لكي تؤدي دور حصان طروادة إيديولوجياتها البراغماتية. السياسة الملتحفة برداء الفكر الديني- واتساقاً مع منطق الفكر ذاته- لا تؤمن بالتعددية, ولا بنسبية الحقيقة, ومن ثم, فهي لا تؤمن بتداول السلطة ابتداءً. والنتيجة التي لا مناص منها هي إقصاء من لا يؤمنون بذات الإيديولوجيا. وهذا هو الاستبداد بعينه لماذا يتشوه الدين، وتستبد السياسة حال الترقي بالأخيرة إلى مجال الدين؟ سؤال يبدو أنه صعب الإجابة, خاصة في ظل الالتفاف العامي حول رجال الدين المسيسين حتى العظم, مقابل سكوت النخب, وعجزها عن مواجهة الأمواج العاتية من التدين التقليدي المستغَل من قبل الأصوليات السياسية, في مجتمع لم ينل بعدُ حداً أدنى من أرخنة التراث!. لكن الإجابة مع ذلك تبدو أقرب إلى الباحث المتجرد, من حبل الوريد. حين يُسيس الدين فإنه يفقد أهم خصائصه المتمثلة في الرابطة الروحية بين الإنسان وربه, والتي تمثل أهم مقاصده حين نزل. وفي المقابل, تتحول السياسة بالضرورة إلى كتلة استبداد صلبة. ذلك أن التعالي بها من منطقها البشري الإنساني المتغير, إلى ميدان المطلق, لابد أن يخلق منها إيديولوجيا قهرية لا تُرِي من تسوسهم إلا ما تَرى, ولا تهديهم إلا سبيل الرشاد. السياسة الملتحفة برداء الفكر الديني- واتساقاً مع منطق الفكر ذاته- لا تؤمن بالتعددية, ولا بنسبية الحقيقة, ومن ثم, فهي لا تؤمن بتداول السلطة ابتداءً. والنتيجة التي لا مناص منها هي إقصاء من لا يؤمنون بذات الإيديولوجيا. وهذا هو الاستبداد بعينه. إننا إذ لا نمل من الحديث عن هذه المسألة والإلحاح عليها, فإننا لا نقصدها بذاتها كغاية, بقدر ما نحاول أن نلفت الأنظار إلى الأساس التراثي النفعي الاستبدادي الذي تتكئ عليه الجماعات والأحزاب الأصولية في العالم الإسلامي اليوم, لا سيما وهي الآن تعد العدة للنز على السلطة, وقطف ثمرة الثورات السياسية العربية. آخر ما جادت الأخبار به مؤخراً عن تلك الأصوليات, ما أعلنته جماعتا: الدعوة السلفية، والإخوان المسلمين في مصر، من أنهما يسعيان إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في كل أمور الدولة هناك . بل, إن نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين (خيرت الشاطر)، أعلن مؤخراً أن جماعته تستعد لإقامة حكومة إسلامية في مصر. وهو أمر أفزع الأقباط إلى درجة طالب فيها البابا شنودة الثالث بإقامة دولة مدنية ديمقراطية في مصر، في مواجهة خطط الجماعتين لإقامة حكومة إسلامية في مصر, إذا تمكنتا, أو أحدهما, من الوصول للسلطة في البلاد. هنا يجب أن نعيد إلى الذاكرة تلك الشعارات التي كانت جماعة الإخوان المسلمين تتبناها طوال أيام الثورة المصرية, والمتمثلة في الزعم بأنها لا تدعو إلى إقامة حكومة دينية في مصر, بل إلى حكومة مدنية ديمقراطية. وفوق ذلك, فهي لن تشارك في أي انتخابات قادمة!, وقلنا حينها إنها بشعاراتها المرفوعة فوق أسنة نفعيتها, إنما تكذب كذبة صلعاء, لأن بنيتها قائمة على أصولية مناقضة لمبادئ الديمقراطية. وهاهي اليوم تصادق على ما قلناه عنها, فتكشر عن أنيابها لقطف ثمرة السلطة, كما قطفت الخمينية ثمرة ثورة الشعب الإيراني على استبداد الشاه الإيراني قبل ما ينيف على ثلاثين عاما. أما السلف فقد طرقوا أبواب السلطة هناك لأول مرة, بعد أن ظل الطرق حكراً على الإخوان منذ انقلاب يوليو عام 1952م. وفي سبيل هذا الطرق, قدمت- أعني السلفية- بروفة مبدئية من خططها التي تنوي تطبيقها حال وصولها إلى السلطة, إذ ناكفت إلى جانب الأقباط, كلاً من المتصوفة بالاعتداء على بعض مشاهدهم, والأشعرية كذلك, إلى حد اُضطر فيه شيخ الأزهر إلى الصدع بأنه -أي الأزهر- سيظل أشعري المذهب, بنكهة صوفية, على طريقة المتصوف السني الكبير: الجنيد البغدادي. إن من أفرى الفرى أن تزعم الأحزاب الدينية أنها تؤمن بالديمقراطية, وأنها ستخضع بالتالي لقواعد اللعبة الديمقراطية في أي انتخابات ستدخلها, سواءً أكانت برلمانية أم رئاسية. ذلك أن البنية الفقهية التي تستمد منها وجودها لا تتوافق, بنيوياً, مع مبادئ الديمقراطية, ولو قبلت تلك المبادئ لأتت على بنيانها من القواعد. الإيمان بمبادئ الديمقراطية يترتب عليه قبول نتائج صناديق الاقتراع, بغض النظر عما ومن ستحمله تلك النتائج. كما يترتب عليه التعامل مع (نسبية) ما يطرح من رؤى وخطط وبرامج انتخابية, باعتبارها ربائب الزمان والمكان . هذه المبادئ الأساسية للديمقراطية تتناقض, كما قلنا, والبنى التي تنطلق منها الأحزاب الدينية, أياً كان أساسها المذهبي, تلك البنى القائمة على الكليانية والإطلاقية, لأنها ترفع "راية الله" تعالى وتقدسها. وهي راية ذات "أوامر ونواهٍ"، ليست قابلة للمداولات, أوالمجادلات حول صحتها, أو الأخذ والرد حولها, ناهيك عن تقادمها. ولسان حالهم يقول: من ذا الذي سيجرؤ على التشكيك في صلاحية "الشريعة" لكل زمان ومكان؟ أما الإسلام, كوحي من الله تعالى, فإنه لم يتنزل ليبحث في شؤون السياسة والاجتماع. نعم, لقد كرس المبدأ العام الذي يجب أن ينظم علاقات البشر, أعني به العدل في مفهومه العام. لكنه, أعني الوحي, لا يتضمن نظريات سياسية أو اجتماعية لتحقيق ذلك المبدأ العام, بل إنه ترك كيفية تحقيقه للاجتهاد البشري وفق متغيرات الزمان والمكان. هذا شأن قرره النبي صلى الله عليه وسلم منذ ما ينيف على أربعة عشر قرناً من الزمان, في قوله, في قصة تأبير النخل:" ما كان من دينكم فإليَّ, وما كان من دنياكم فأنتم أدرى به". كما أكده صلى الله عليه وسلم في مناسبة حربية هي غزوة بدر, والحرب, كما نعرف, ثاني اثنين من مسؤوليات الدولة, وذلك عندما أكد للحباب بن المنذر بن الجموح بأن نزوله في أول القُلُب لم يكن إلا مجرد رأي ومكيدة, وليس منزلاً أنزله الله تعالى إياه. وإذا كان الرأي والمكيدة يشكلان, وفقاً للنبي صلى الله عليه وسلم, معيارين دنيويين زمن الحرب, فإن تحري مظان العدل الشامل بمفاهيمه العصرية وقت السلم, يشكل, هو الآخر, معياراً دنيوياً يستمد منه الحكم والسياسة شرعيتهما. هذا الأمر,أعني(دنيوية) الحكم والسياسة, مما عقله المفكرون المسلمون القدماء, فقرروا, على إثره, أن الوحي إنما يختص بالشرائع, وبالجملة ما ينظم علاقة الإنسان بربه, أما الحكم وشؤون السياسة فينظمهما العقل وتراكم الخبرة الإنسانية. في مقدمة أولئك المفكرين, يأتي المفكر العربي المعروف: عبدالرحمن بن خلدون, الذي قرر في مقدمته المشهورة أن شؤون الحكم ومسائل الاجتماع إنما هي مسائل دنيوية بحتة, وليست من تنظيم الشرع, ذلك " أنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات( = ومن ضمنها شؤون الحكم والسياسة). وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع. فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)". ويحاجج ابن خلدون لرؤيته في مسألة( دنيوية) مسائل الحكم والاجتماع, فبعد أن يقرر أن " الاجتماع ضروري للإنسان, بما أنه مدني بالطبع", يعود فيقرر أن هذا الاجتماع لا بد له من وازع(= رادع), يقوم به سلطان مطاع, بقوله:" ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه و تم عمران العالم بهم, فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان و الظلم. فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان و اليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان, و هذا هو معنى الملك. و قد تبين لك بهذا أنه خاصة للإنسان طبيعية, ولا بد لهم منها". وما دامت طبائع العمران البشري تستلزم وجود سلطان يزع الناس, فالسؤال هنا هو: كيف يكتسب هذا السلطان شرعية أداء ذلك الوازع؟ أبوحي من الله تعالى, أم بآليات العقل؟. هنا يرد ابن خلدون على رأي الفلاسفة, الذين حاولوا عقلنة النبوة فانتهوا إلى أن حكمهم للبشر هو المقصد من نبوتهم, وأن الحكم بالتالي إنما هو بشرع آت من عند الله, بقوله:" و هذه القضية( حكم البشر بشرع من عند الله), للحكماء غير برهانية كما تراه. إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك, بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم و حملهم على جادته. فأهل الكتاب و المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل العالم. ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار, فضلا عن الحياة. وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة, فإنه يمتنع". وللمقال صلة.