ونعود إلى أن مسألة أخرى تخص قصيدة "شفنا المنازل" التي تحمل أكثر من ملمح في معجمها اللفظي يخص القرن العشرين سواء تنافر القافية المزدوجة (الفضا/ مخاريب، جرى / النواحيب، مضى/ الأصاحيب) المشابه لقصيدة المغلوث ( الهوى/ الغرابيل، دوى/ البلابيل، جوى/ الهماليل..) (الديكان، 1995، 381)، والتقطيع المحترف في تركيب الجمل لتناسب ضغوط الإيقاع (يا عين هذا أمر الله / واللي جرى/ من حال أمره/ ما ترده النواحيب) وفي بيت آخر ( واحسرتي / قلبي طرى/ ما مضى/ وقت مضى / تلقى به الأهل والأصاحيب).. ولعل المصادفة أن ندفع بسبب تذكر ملا سعود المخايطة سنة الطاعون 1831 إلى لاوعيه بأنها سنة مؤلمة أفقدتنا محمد بن لعبون مبدع الفنون التي عاشت حتى أن المخايطة كان أول من سجل فن لعبوني شهير "يا علي صوت بالصوت الرفيع" (1932)، ولا ننسى أن أسرة المغلوث والمخايطة من الأحساء، ويمكن أن يكون المخايطة وضعها على ذات النسق مرتباً أمر تسجيلها لاحقاً ولم يكن، فأعطاها سواه. ربما.. وكأن فن اللعبونيات تحول في تناقله وتواتره بقدر تمجيد ابن لعبون إلى حالة رثاء طويلة، فهذا السامري في أصله البعيد (طرق طويل) الذي تطور حينما نقله ابن لعبون في القرن الثامن عشر إلى الزبير ونشره في الكويت والبحرين والأحساء، وتحول من إطار ميزانه الثلاثي إلى الرباعي والسداسي بحسب تعقد آلاته من الطارات والطبول والتصفيق، وتوسع مجال قصائده من جرات الربابة والحداء والنهمة، إنه تأريخ إنسان هذه المنطقة، ولا يعبر سوى هذا الفن عن حياته حتى مماته، فيتحول الفن إلى تاريخ الآلام والأوجاع.. ومستودع الذكريات والحكايات.. وأذكر أنه تؤرخ جدتي أيام الأولين، وهي بحدود ثلاثة أجيال بحسب ما لاحظه المؤرخون المعاصرون، بسنوات تهز كيان مجتمع بلدات نجد مطلع وحتى منتصف القرن العشرين، وهي سنوات الأوبئة والمجاعات والأمراض التي تنتج تهديداً إن لم يكن دماراً اقتصاديا بالفقر والهجرة والفناء.. وغالبا ما يردفها جدي بسنوات الحروب التي تطلقها فتن قبلية وطائفية وغزوات وإغارات النهب والخطف.. وهذه المؤسسة الشفوية لها أثر حيوي ويستمر بقدر ما تحقق مواده ومعلوماته حاجات المجتمع لكونها تشكل التراث المعنوي والمادي له وهي مهددة بالنسيان والتحريف والإتلاف إن لم تدون وهو ما يسقط من تواريخ أي مجتمع عبر سنوات الحضارات.. ومن تلك السنوات المؤلمة على عوائد المجاز اللغوي حين تسمى بنقيضها ردا لشرورها وضررها وذكراها المؤلمة: سنة الجوع (جدب 1326 ه- 1909م)، وسنة الرحمة (الكوليرا 1336ه-1917م)..، وتوجد سنوات أخرى مرتبطة بكوارث طبيعية مثل سنة جرب المعزى (1337ه-1918)، وسنة سحبة (1348 ه-1930)، وسنة لوفة (1349ه-1930)، وسنة الصريد (1354ه-1935)، وسنة التكية (1361ه-1942)، وسنة الجرب (1363ه-1943).. وقد رصد المؤرخ الاجتماعي عيد الرحمن السويداء، من تلك السنوات الفارقة في تاريخ نجد الكثير، في كتابه "الحروب والمجاعات والأمراض: وأثرها على التركيبة السكانية في نجد" (2010) لكونها مواضيع تدور حولها معظم المدونات والحوليات التاريخية، في وسط وشرق الجزيرة العربية، منذ قرون ليست بالبعيدة. فالأولى: سنة جدب وغلاء "وقلت الأمطار وغليت الأسعار وبيع التمر أربع وزنات بالريال والحنطة أربعة أمداد بالريال (يعني صاعاً وثلثاً) والسمن الوزنة بريال ونصف (السويداء، 2010، 296). وأما الثانية: انتشرت أوبئة كالجدري (وهو مرض تلوثي) لا يحتمله الأطفال فمات منهم كثير في القصيم، والكوليرا في حائل أودت بأسر في بيوتها ولا عرف عنها إلا بعد أن فاحت رائحة الجثث..(السويداء، 2010، 332). والمتغيرات السياسية والاقتصادية تفرض بعوض هذه السنوات ما يحقق الرخاء والرفاه اللذين يبددان هذه الذاكرة.. إلا أن بعض السنوات سواء كانت بها حروب طاحنة غيرت المسار السياسي أو أوبئة فاتكة هددت التركيبة الاجتماعية تخلد في التراث المعنوي ومنها ضمن نطاق وسط وشرق الجزيرة، وهنا لا أعني الهجائيات والرثائيات المباشرة، وإنما قصائد تتخطى زمنها مثل قصيدة "يا عين يللي حاربت النوم" لعلي الخياط (وضعها 1862)، وقصيدة الخلوج لمحمد العوني (وضعها عام 1901) وسواها.. من المترحلات بحناجر القرن العشرين برغم نهاية ظروفها السياسية، فقد سجلت أسمهان، في فيلم "غرام وانتقام" (1944) مقطعاً من الأولى درج عند أحد شعراء جبل العرب من ذات عائلتها زيد الأطرش التي بنى من بيتها الشهير "يا ديرتي مالك علينا لوم" عليها قصيدة أخرى وهي رسالة سياسية بقصد أسمهان، وأما الثانية سجلها المغني الكويتي عبد الله فضالة عام 1967 جرة ربابة..