يشكل الانتقال السلس الهادئ للسلطة المبني على مواد دستور واضح مكتوب في أي بلد في العالم ما يمكن اعتباره المؤشر الرئيسي والأبرز على استقرار ذلك البلد، سواء في ذلك استقراره السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو من ناحية استتباب الأمن فيه بشكل عام. أما معكوس هذا الأمر المتمثل بعدم توفر دستور واضح للبلد يوضح كيفية انتقال السلطة وتداولها بعد أي رحيل مفاجئ لمن هو على رأس الهرم السياسي فلن ينتج عنه إلا إغراق البلد بمزيد من الفوضى والاقتتال والاحتراب الداخلي وما يتلو ذلك ويستتبعه من فتن عمياء تؤدي لا محالة إلى الانزلاق في أتون نار تلظى من حرب أهلية لا تبقي ولا تذر أحداً إلا وألقمته ما يكفيه من لظاها يستوي في ذلك الخاسر فيها والكاسب. عادة ما يشار في أدبيات الفكر السياسي إلى مثل تلك الآلية السهلة في انتقال السلطة ب «التدوال السلمي للسلطة» وهي تعبر عن وضع يتم فيه نقل سلطات من هو على رأس الهرم السياسي لحظة غيابه المفاجئ إلى خلفه بكل يسر وسهولة بحيث لا يحس مواطنو ذلك البلد بإجراءات غير عادية على خلفية ذهاب سلف وإقبال خلف، مما يجعل الاستقرار بكافة أطيافه حليف الوطن والمجتمع على حد سواء. لدينا في المملكة أوضح مثال لنموذج « التداول السلمي للسلطة» بشكله المحكوم دستورياً، وهو ما تنظمه المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم الصادر بالأمر الملكي رقم أ/90 وتاريخ27/8/1412ه وتحديداً في المواد (ب، ج) منها، القاضية باختيار الملك وولي العهد، وهو ما تم العمل به فور التحاق الملك فهد رحمه الله بالرفيق الأعلى، إذ بايع أفراد الأسرة الحاكمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز ملكاً على البلاد وفقاً للفقرة (ب) من النظام الأساسي للحكم وبعد البيعة مباشرة قام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله باختيار الأمير سلطان ولياً للعهد وفقاً للفقرة(ج) من نفس النظام، وكان بالفعل انتقالاً سلساً هادئاً بسيطاً حتى لكأن المتابع للشأن السعودي لَيُحِسُّ أن لا مصاب جللاً حصل في المملكة، فالحياة كانت تجري لحظتها بشكل عادي روتيني كما هي طبيعتها قبل المصاب الكبير، عدا ما يتبدى من مظاهر حزن طبيعية هي أقرب ما تكون من حزن أفراد الأسرة على والدهم الراحل، والذي يمكن أن يلحظ على تعابير وجوههم وحشرجات صدورهم لكن الحياة رغم ذلك تجري في البيت بشكل عادي للغاية استمرارا لتدفق مجرى الحياة في طريقه المعتاد، كنت أتحدث في هذا المقام مع أحد الزملاء من المقيمين لدينا من غير العرب، فسألته على هامش الحديث عن رأيه في أمر انتقال السلطة في السعودية، فقال إنه كان يتصور وهو يشاهد سيناريو الانتقال الرائع والمؤطر دستورياً وما ترتب عليه من هدوء كان مثار إعجابه في الشارع السعودي أن لو كان أحد من الناس نائماً أو منوماً قبل إعلان وفاة الملك فهد رحمه الله وأفاق بعد إتمام مراسم انتقال السلطة وطاف أو طيف به على كافة مدن المملكة وقراها من دون أن يُشعر بما تم، فلن يتمكن من تمييز أية مظاهر تدل على حدث كبير كهذا الذي حدث بوفاة حاكم وخلافته من حاكم آخر،و سيرجع من حيث أتى ليباشر أعماله باعتبار الوضع السابق قبل التغير وكأن شيئاً لم يكن، وهو صحيح فمظاهر الحياة حينها في المملكة لا تدل على أية مظاهر توحي أن شيئاً ما حدث، عدا كما قلت آنفاً ما ترتب على ذلك من حزن كبير على فقد الملك فهد وهذا لن يتأتى إلا لمن سيتفرس في وجوه الناس ( بافتراض الحالة التي أشار إليها صديقي غير العربي) . هذا الوضع ( أعني الانتقال الدستوري الهادئ للسلطة) أعطى للمملكة ويعطيها على الدوام ثقلاً على ما تتمتع به من ثقل، إن كان على المستوى السياسي بوصفها لاعباً رئيسياً على المسرح السياسي الدولي، أو على المستوى الاقتصادي وما يستتبع ذلك من ثقة كبيرة في استقرار اقتصادها وأمنها وما يشكله كل ذلك من ثقل ووزن كبيرين على كافة المستويات، لعل أبرزها على المستوى الاقتصادي ثقة المستثمرين الأجانب وبيوت المال الأجنبية بأن استقرار المملكة هو أكبر وأهم ما يراهنون عليه عند التعامل معها، وذلك بأن لا يخشون أية محاذير من تغييرات مفاجئة من قبيل التناحر على السلطة أو بروز قوى راديكالية مغايرة في نهجها للنهج الذي راهنوا عليه وأخذوه في حسبانهم عند ما قرروا التعامل مع المملكة . هناك نقطة أخرى جديرة بالذكر وهي على متن هذا الحديث وهامشه، هذه النقطة تعيدنا إلى الوراء وإلى ما قبل صدور النظام الأساسي للحكم الذي ينظم كيفية انتقال السلطة، فكما هو معروف فإن هذا النظام صدر في عام 1412ه، وبالتالي فإن السؤال البديهي يجرنا إلى كيفية تداول السلطة قبل صدور ذلك النظام، وإجابته الحاضرة المعروفة للجميع بأن انتقال السلطة في المناسبات السابقة سواء عندما انتقل الحكم من المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله إلى خلفه الملك سعود أومن بعده للملك فيصل ثم للملك خالد ثم للملك فهد رحمهم الله أجمعين كان انتقالا سلمياً سلساً بسيطاً مثلما هو عند ما انتقل دستورياً من الملك فهد رحمه الله إلى الملك عبدالله أعانه الله ووفقه، ويبقى القول أن تنظيم هذا الانتقال دستورياً بواسطة النظام الأساسي للحكم جاء ليضفي طابعاً تنظيمياً مكتوباً على وضع طبيعي معتاد كان العمل يتم به في كافة المناسبات السابقة، أو لنقل إن النظام الأساسي للحكم أتى ليؤطر هذا التداول السلمي للسلطة دستورياً بعد أن كان خصوصية عرفية سعودية أصبح من المتعايَش معه والمعروف من كافة المتابعين للشأن السعودي بالضرورة، بقي أن أوجه بقية فقرات هذا المقال للمواطن السعودي الكريم وكلنا ذلك المواطن بأن يطلق العنان لخياله ليتصور وضعاً يجد فيه وقد خرج من بيته بعيد الإعلان عن وفاة الملك فهد رحمه الله ليجد الشوارع وقد سُدت بالآليات العسكرية من كل نوع والجنود وقد وضعوا أصابعهم على الزناد تحسباً لأي طارئ، هذا إن لم يكن هذا الطارئ قد جاوز القدرة !!! ولِيُبلَّغ بأن قانونا للطوارئ قد فُرض وأن حظراً للتجول قد طُبق لساعات عديدة وأنه لم يعد يأمن على بيته وأولاده، ثم ليقارن هذا الوضع المتخيل الصعب بطبيعته على مخيلة إنسان هذا الوطن بالوضع الطبيعي الذي عايشه وتعامل معه بعد ذلك المصاب الجلل الذي كان من لوازمه أنه لم يكن ليعلم أن مناسبة كهذه وحدثاً كهذا مرا لو لم يكن يتعايش مع الإعلام، ولتكن نتيجة هذه المقارنة حمداً لله وشكراً له ورعاية لحقه وحق أولي الأمر على هذه النعمة الكبيرة، نعمة الأمن والاستقرار حتى في أشد الحالات التي تستنفر لها دول العالم كافة قدراتها ومقدراتها، إن نظرة سريعة للعالم من حولنا تعطي وضعاً قاتماً جراء شرور وبلاوى قائمة ووميض جمر تحت الرماد تأتي مناسبات أقل من تلك التي مررنا بها لتزيح ذلك الرماد عن سطح الجمر تحتها فإذا الحال تنقلب بسرعة البرق إلى فتن تدع الحليم فيهم محتاراً ما ذا يفعل ؟ هل يأتي إلى القبر ليقول له ليتني مكانك؟!!!! سيناريو الفتن التي أعقبت حوادث ليست من النوع الجلل الذي مررنا به في أماكن كثيرة من العالم من حولنا استدعت فعلاً مثل تلك الأماني، فالحمد لله على نعمائه الذي بشكره تدوم النعم، ولا يبقى بعد ذلك إلا حق رعاية حق هذه النعم وهو حق منوط بكل مواطن ومقيم ينشد الأمن والأمان له ولمن هم تحت يده.