الأمكنة مثل النصوص الأدبية لها هويتها وتنتج عن تجربة إنسانية حياتية لكنها تتميز بكونها تجربة ممتدة متجددة قابلة لاستضافة الأحداث الجديدة لذلك فهي مفتوحة على المستقبل. المكان فيه النص الثابت المكون لخصائص الأولية لكنه نص لا يكتمل أبدا فهو في طور الاكتمال. والمدينة التي تحتوي الامكنة تقدم هويتها على شكل سلسلة من العلاقات التي تصنع الحدث المديني وتجعل من ساكن المدينة يعيش "المصادفة" المدينية التي تجدد الحياة وتكسر الملل من تكرار المشهد اليومي، فإذا كان ساكن المدينة يرى المشاهد البصرية العمرانية ثابتة لاتتحرك إلا ببطء شديد إلا أن الحدث اليومي "المسرحي" الذي تحتفل به هذه الأمكنة يجعل من مشاهدها البصرية مجرد "خشبة مسرح" بينما العمل المسرحي الحقيقي هو تفاعل الناس مع المكان. أحاديث المكان وسيرتها الذاتية أقدم من سير البشر وأكثر منها تعقيدا، فهي تحمل تراكما زمنيا وترصد التحول الاجتماعي وهي تحمل تاريخاً بداخلها فثبات المشهد البصري لا يؤثر أبدا في كونها حية ومتجددة وكل يوم لها حكاية عن اليوم الذي سبق وستكون مختلفة عن اليوم التالي. المشهد الحضري للمكان هو الذي يصنع حكايته الجديدة دائما، لذلك فإن المكان دون هذه الروح الحضرية يعتبر مكانا فاقدا للروح، وهذا أخطر ما يمكن أن تعاني منه أي مدينة. في لندن، حركتي اليومية تقريبا تبدأ من "الأدجور رود" وأنا عادة ما أسكن في منطقة "بادنجتون" في شارع "بريد" بالقرب من مستشفى "سانت ماري" وهو المكان الذي كان يعمل فيه مكتشف البنسلين "الكسندر فلمينج" (1881-1955م) تجاربه، كما أنه نفس المكان الذي ولد فيه الأمير "وليام" ابن ولي العهد "شارلز" وابنه الجديد الذي ولد هذا العام. المكان مفعم بالتاريخ وتتجدد فيه الأحداث باستمرار رغم أن المبنى لم يتغير منذ سنوات طويلة. من هذا المكان أبدأ رحلتي اليومية مشيا على الأقدام فإما أنطلق باتجاه محطة القطارات "بادنجتون" ثم إلى "الهايد بارك" ومن ثم إلى منطقة المتاحف الكبرى في "كنزنجتون" وبعد ذلك "كرومول رود" الذي يقود إلى "النايتس بريدج" حيث يوجد "هارودز" أو أنني أقطع شارع "بريد" باتجاه شارع الأدجور أو خان الخليلي اللندني كما يحلو للبعض تسميته ومن ثم إلى شارع "أكسفورد" حيث أتوقف أحيانا في منطقة خلف "سلفردج" تسمى "سانت كريستوفر بليس" حيث توجد أشهر المطاعم اللندنية والمكان يعتبر ملتقى اجتماعيا مهما للندنيين ولزوار المدينة، وبعد ذلك أتجه إلى شارع "الريجنت" وأحيانا أفضل شارع "بوند" حيث محلات الماركات العالمية حتى أصل إلى شارع "بوند القديم" الذي يصلني بالاكاديمية الملكية للفنون من الخلف لأن المبنى مفتوح على شارع "البيكاديللي"، لكني افضل شارع الريجنت، حيث الحياة الحضرية والفضاءات الخلفية التي يوجد بها مقاهي ومطاعم وأماكن للجلوس هادئة تفصل الراغبين عن الصخب الحضري الذي يتصاعد طوال اليوم في "الريجنت". في نهاية "الريجنت" تنحني المباني مشكلة خطين منحنيين متوازيين في غاية الدقة بطراز من عمارة القرن التاسع عشر تقود إلى ساحة "البيكاديللي" الشهيرة. من هذه الساحة المفعمة بالحياة أنطلق عادة إلى "لستر سكوير" وأحيانا قليلة إلى حديقة "سانت جيمس" أو العودة من شارع "البيكاديللي" إلى متنزه "الجرين بارك". ساحة "لستر" تعتبر ساحة الفنون وفيها تعقد الاحتفالات بإطلاق الأفلام الجديدة ويحيط بالساحة أشهر دور السينما فهي بحق حلقة وصل ثقافية في المدينة. من هذه الساحة يبدأ مخطط جديد للتفاعل مع الحدث الحضري للمدينة، فمنها أنطلق إلى سوق الخضار التاريخي "كوفنت جاردن" الذي أسسه الملك "جورج الرابع" عام 1670 وتحول بعد ذلك إلى أحد أهم المناطق السياحية، ومركز للحرف التقليدية ومسرح للعروض الفردية والشعبية، وهو مكان يستحق الزيارة وتوجد لوحة من البرونز معلقة على جدار المبنى الأصلي للسوق تحكي حكاية المكان والتحولات التاريخية التي مرت عليه. ولكن ساحة لستر تقود كذلك إلى شارع "تتونهام كورت رود" حيث توجد محلات بيع الكتب المستعملة ومكتبة خاصة بكتب الفن التشكيلي والعمارة، وهي محلات كنت ومازلت ازورها منذ أكثر من عشرين عاما، وهذا الشارع يقود إلى منطقة "هولبورن" حيث يوجد المتحف البريطاني لكنني عادة ما آتي للمتحف من طريق آخر. الخيارات من "لستر سكوير" كثيرة وأهم خيار هو الذهاب لساحة الطرف الأغر وهي الساحة التي حملت هذا الاسم نتيجة لمعركة الطرف الأغر في اسبانيا (1805م) والتي انتصر فيها الانجليز على الفرنسيين والاسبان، وهي الساحة الأشهر في لندن حيث يقف الاسدان بين النصب الذي يحمل تمثال القائد الانجليزي "نلسون" هذه الساحة تقود إلى شارع البرلمان الذي ينتهي بمبنى البرلمان وبرج ساعة "بج بن"، الحركة في هذا الشارع تتطلب النظر للخلف حيث ساحة "الترفلغار" والتي تبدأ في التواري التدريجي بشكل ممتع. برج "بج بن" يظهر في بداية الشارع ثم يختفي كلما تقدمنا حيث توجد المباني الحكومية التاريخية الضخمة لكنه يظهر فجأة مع الساحة. يقابل مبنى محطة البرلمان مبنى محطة قطارات المترو "وستمنستر" التي افتتحت عام 1868م. بمحاذاة برج الساعة يمكن عبور نهر "التيمس" عبر جسر "وستمنستر" حيث يوجد عدد كبير من "المقامرين" الذين يلعبون بعض الالعاب التي تخسر فيها النقود دائما ومع ذلك الناس يستمتعون بهذه الألعاب المكلفة. وفي نهاية الجسر توجد منطقة لندن "آي" حيث توجد العجلة الكبيرة التي ترفعك للسماء لترى وسط لندن من الأعلى. الحركة في لندن سلسة وسهلة ومعدة للمشاة وقد جربت ذات مرة أن أمشي حتى قرية "جرينتش" بمحاذاة النهر ولم أجد أي صعوبة أبدا، بل إنني وجدت محطات ومناطق وصل متعددة تجعل الراغب في المشي لا يمل بل وتشجعه على اكتشاف المكان. كنت أفكر في الرياض وفي المدن السعودية الأخرى التي حاولت مرارا أن أكتشفها مشيا على الأقدام فلم أستطع، المشي في مدينة الرياض حدوده واضحة فإذا كنت في شاع الأمير محمد (التحلية) فمن العليا إلى الضباب في أقصى تقدير، وبعد ذلك لا تعلم أين تذهب. الحكاية الحضرية في مدينة الرياض غير مكتملة ولا يوجد لديك أي خيارات، عندما تصل العليا من طريق التحلية لا تستطيع الحركة في الشارع فهو غير جاهز للمشي خلافا إلى أنه لا توجد محطات واضحة تدفع للمشي كما أن الطريق مزعج. في اعتقادي نحن بحاجة إلى مراجعة جادة للحكاية الحضرية في بعض مدننا فتخطيط المدينة، وعمارتها يجب أن ينبعا من تعزيز القيمة الانسانية الحضرية التي تقوم على التفاعلات الاجتماعية غير المقصودة، أسأل نفسي لماذا مدننا للأسف لا تحث على اكتشاف المدينة ولا من يسكنها؟