علّمنا التاريخ أن الحضارات تقوم على ضفاف الأنهار، وفي غياب المصدر المائي الذي يعتمد عليه لم يتمكن الإنسان من بناء حضارة إذا كان يمضي حياته في الترحال باحثاً عنه، وهناك حالات محدودة تمثّلت في وجود مصادر مائية محدودة للغاية مكنت من بناء واحات بسيطة اعتمدت على النزر اليسير المتاح من الماء الذي كان يُستخرج بوسائل بدائية، وغاية ما تطلعت إليه تلك الواحات كان إنتاج ما يسد رمق سكانها. لكن للتاريخ منطقا جديدا فرضته التقنية الحديثة، حيث مكّنت من تحلية ماء البحر ونقله الاف الكيلو مترات إلى التجمعات السكانية، وغيّرت مجاري الأنهار والأودية وأقامت السدود، كما استطاعت تجمعات سكانية أن تنمو وتزدهر، غير عابئة من أين اتت تلك المياه أو كيف أتت، ولو تأملت بعض تلك التجمعات السكانية من أين تشرب لما نامت قريرة العين. محطات التحلية «حل مؤقت» وتُخضعنا لابتزاز الآخرين نحو تقنية لا ننتجها ولا نستطيع صيانتها نحن في المملكة نشرب (8) ملايين متر مكعب من المياه يومياً، أي (2.92) مليار متر مكعب سنوياً، (60%) منها يأتي من محطات التحلية؛ أي (1.75) مليار متر مكعب نضخها عبر أنابيب يبلغ طولها (4500) كيلو متر، ونفتخر بأننا أكبر دولة في العالم تُحلي مياه البحر، ومع أن هذا إنجازٌ عظيم، إلاّ أننا نحسن صنعاً إن أخذناه على أنه حل موقت لمشكلتنا؛ ليس لأن الخليج العربي أسوأ مصدر يمكن أن يعتمد عليه، بل أيضاً لأننا لا نستطيع أن نلاحق النمو السكاني ونضيف مزيداً من محطات التحلية، لا سيما إذا عرفنا أن عدد سكان الخليج قد تضاعف (5) مرات خلال الأربعين سنة الماضية، والمملكة ليست استثناء من ذلك. "الرياض" التقت الأستاذ "عبدالله بن عبدالعزيز الرشيد" - باحث ومهتم في شؤون المياه-، وكان الحوار التالي: ا لخليج العربي * لماذا يعتبر الخليج العربي أسوأ مصدر للماء؟ - هناك عدة أسباب تجعلنا نجزم أن الخليج العربي لا يصلح مطلقاً كمصدر للماء، ويجب وقف استخدامه في أسرع وقت ممكن، وهي: (1) الخليج العربي عبارة عن بحيرة شبه مغلقة ضحلة لا يزيد معدل عمقها على (60 ) متراً، ويستغرق استبدال الماء فيها أكثر من (5) سنوات؛ لبعدها عن البحار المفتوحة ولانعدام التيارات البحرية القوية، (2) سوف تزرع شواطئه بعشرات المفاعلات النووية لأغراض التحلية وتوليد الطاقة من قبل دول لا يتوفر لها من الخيارات ما يتوفر لنا، (3) لو لم يكن هناك إلاّ مفاعل "بوشهر" الإيراني بتقنيته الروسية التي يزيد عمرها على (60) سنة لكفانا قلقاً، ذلك المفاعل الذي تكتنفه الأخطار من كل زاوية، فهو مهدد بالانفجار كما حدث لمثيله مفاعل "تشرنوبل" في الاتحاد السوفييتي السابق، ومهدد بالضرب من قبل قوى اقليمية ودولية، بالإضافة إلى أنه يقع في منطقة نشطة زلزالياً، ناهيك عن كون المسيطر عليه لا يكن الكثير من الود!، (4) في حربي الخليج عانينا ما عانيناه من تلوث مياهه، ولا أظن أننا نسينا ذلك، (5) الخليج وبصرف النظر عن مشاكله الإقليمية والفنية، فهو نقطة التقاء مصالح الأعداء؛ بمعنى أن الولاياتالمتحدة قد تتخذ منه ورقة ضغط على الصين العطشى للطاقة، عندما تستغني هي عن بترول الخليج قريباً. إن تجربة تحلية مياه البحر جذابة في مظهرها، لكننا نرتكب خطأ قاتلاً إن نحن اعتمدناها كاستراتيجية نسقي بها مواطنينا، فهي محفوفة بالأخطار من البداية حتى النهاية، ويمكن اللجوء إليها إذا انعدمت الخيارات الأخرى فقط؛ حتى إقامة محطات على بحر العرب، كما تفكر بعض دول شمال الخليج، لن تكون بدون معضلات، أقلها إمكانية الابتزاز من قبل الدول التي تمر بها خطوط النقل. حجز الأمطار * ما هو البديل؟ - لو امعنا النظر في خارطة الثروة المائية المتجددة للمملكة؛ لذهلنا وعضّينا أصابع الندم على ثروة نهدرها في حين نخضع أنفسنا لابتزاز الآخرين، ولتقنية لا ننتجها ولا نستطيع صيانتها ولا نضمن توفرها؛ تلك الثروة هي كمية الأمطار التي تسقط على المملكة؛ فلدى الجميع وعلى مستوى العالم، قناعة بأن المملكة تفتقر إلى نسبة أمطار يُعتمد عليها، وهذا فهم غير دقيق، ربما لأن البلاد واسعة الأرجاء والحكم انصب على أجزاء منها، ولنستعرض الأرقام الموثقة: تقدر كمية الأمطار التي تهطل على البلاد وعلى أقل تقدير ب(125) مليار م/3 سنوياً، ونحن نشرب سنوياً (2.9) مليار م/3، (60%) منها يأتي من محطات التحلية، أي أننا نحلي (1.7) مليار م/3 سنوياً. الا نستطيع الحصول على (1.7) مليار م/3 من تلك الكمية الضخمة من الأمطار (125) م/3. بالتأكيد لن نستطيع استغلال كامل ما يهطل علينا من الأمطار، لكننا بالتأكيد نستطيع (حصد) ما يكفينا لنشرب ونزرع، ونحررنا انفسنا من الابتزاز. ضخ النيل سنويا= 99 مليار م/3، أمطار المملكة سنوياً=125 مليار م/3. لو قارنا ماهو متاح لسكان المملكة الذين يقل عددهم عن (30) مليون نسمة من مياه الأمطار بما هو متاح لسكان حوض النيل البالغ عددهم (450) مليون نسمة؛ لأخذتنا الدهشة كيف نحتاج لتحلية ماء البحر؟ وبعملية حسابية بسيطة، نجد أن ماهو متاح للفرد من سكان حوض النيل يبلغ (220 )م/3 من الماء سنوياً، في حين أن ماهو متاح لساكن المملكة من مياه الأمطار هو (4166) م/3 سنوياً، ومن المؤكد أن المقارنة غير عادلة، فالنيل جاهز لإمداد من يرغب بالماء دون عناء، أما في حالتنا فلا بد من عمل مضنٍ واستثمار ضخم، لكن لا يزال الحل في متناول اليد. نعم، ليست كل كمية الأمطار التي تهطل على المملكة يمكن (حصدها)؛ فهناك مناطق شاسعة لا يمكن التعامل معها في هذا المجال، مثل الربع الخالي والدهناء والنفود؛ فطبيعتها الرملية لا تمكِن من حجز أمطارها، لكنها ليست بدون فائدة، فنهايتها المياه الجوفية والمحافظة على الغطاء النباتي المحدود، المهدد بالزوال. البحر الأحمر * ماذا عن الأمطار التي تهطل على جبال السروات؟ - لو أهملنا كافة الأودية والشعاب على كثرتها وكبرها، وكذلك الأمطار التي تسقط على الأراضي المنبسطة، وأخذنا فقط الأمطار التي تسقط على جبال السروات والمقدرة حسب الإحصاءت المتحفظة بما لا يقل عن (30%) من كمية الأمطار التي تسقط على البلاد، لوجدنا أن نصيب سكان المملكة أكثر من خمسة أضعاف نصيب مواطن حوض النيل؛ لأن ما يسقط على جبال السروات من الأمطار يبلغ (37.5) مليار م/3 سنوياً، ينتهي معظمها في البحر الأحمر. إن هذا يجعل الصورة محرجة؛ فكيف نضطر لتحلية (1.7) مليار م/3 من مياه البحر ونخضع أنفسنا لرحمة أكثر من عامل احلاها مُر، ونهدي مياه جبالنا للبحر الأحمر! أمطار جبال السروات * هل تريد أن تصل إلى أن نشرب ونزرع من مياه جبالنا؟ - لو سلّمنا جدلاً أن أراضينا المنبسطة يصعب التحكم في مياه الأمطار الساقطة عليها التي تبلغ (87.5) مليار م/3 سنوياً؛ فإن (37.5) مليار م/3 الساقطة على جبال السروات سنوياً والضائعة في البحر الأحمر يمكن التعامل معها، ويجب أن لا نستصغر هذه الكمية؛ فتدفق دجلة والفرات في العراق (في الوقت الحاضر) مجتمعين يبلغ (16) مليار م/3 سنوياً تقريباً، وسكان العراق يزيدون على (30) مليون نسمة، ومن جبالنا نستطيع أن نزرع ونشرب ونلاحق النمو السكاني، ونلبي حاجاته، ونحرر أنفسنا من سلبيات الخليج السياسية والتقنية والبيئية. السروات سلسلة جبال محاذية للساحل الغربي، تمتد من جنوب اليمن حتى بداية خليج العقبة، ونصيب المملكة منها (1550) كم تقريباً، يتراوح عرضها بين (150) و(40) كم؛ بمعنى أن لدينا هضبة مطيرة مساحتها (147250) كم/2 تقريباً؛ أي (14) ضعف مساحة لبنان، أما ارتفاعها فإنه يتراوح بين (3300) متر و(800) متر، وهذا يجعلها أرفع من أية نقطة أخرى في المملكة، واعرض ما تكون واخفض ما تكون في الغالب حول منطقة المدينةالمنورة، وهذا يفسّر بداية بعض الأودية من هناك، وبالذات وادي الرمة العظيم، وويتخللها العديد من الأودية والشعاب والمنحدرات والمنخفضات التي يمكن استغلالها في توجيه المياه المتدفقة. حفر قنوات وأنفاق * وكيف يتم الحصول على ذلك؟ - للحصول على هذا المصدر المائي العذب الدائم من داخل حدودنا؛ فإننا لا نحتاج إلى تقنية معقدة، وكل ما نحتاجه متاح لنا محلياً، بدءاً بالمساحين والجيولوجيين والمهندسين والخبراء السعوديين الذين يستطيعون وضع الدراسة وخطة العمل، بعد ذلك يأتي دور المقاولين السعوديين الذين اكسبهم تشييد البنية التحتية الضخمة في بلادنا خبرات تؤهلهم للتعامل مع أضخم المشروعات، فكل ما نحتاجه في الغالب هو حفر قنوات وأنفاق وإقامة موانع فوق سطح الأرض وتوجيه الماء ليتدفق باتجاه مناطق يمكن ادارته منها. لا أحب ان أسطح الأمور، لكن لا أحب أن يهزمنا الخوف؛ نتيجة لثقافة رفض كل ما هو جديد، فكراً كان أم ممارسة، ولا أحب أن يمنعنا ذلك الخوف من التفكير بأمر إن تحقق، فسوف يغيّر وجه بلادنا وينهي كوننا عالة على الآخرين في اساسياتنا، الماء والغذاء، بل سوف يزيد من خير بلادنا الذي يصل للآخرين -إن شاء الله-. لو عطلنا الأفكار التي تخرج عن المعتاد، لما حُفرت قناة السويس، وقناة بنما، والنفق الأوروبي، ولما غزا الإنسان الفضاء، وكلها منجزات أصعب وأكثر تعقيداً مما نحن بصدده. * ماذا تريد أن تقول في الختام؟ - أختم بأربعة أمور (أولاً): أرجو أن لا يساور أحد الشك في إخلاص وجدية وحرص المسؤولين من أعلى موقع في الدولة إلى أقل مسؤول في مؤسسات المياه، لكن عليهم أن يهزموا ثقافة الخوف من كل ما يخرج عن المعتاد، (ثانياً): إنني هنا لا أضع خطة عمل، فهناك من هو أفضل مني، لكنها أفكار أضعها للدرس والاجتهاد؛ لخدمة الصالح العام، (ثالثاً): الأرقام والنسب الواردة قد لا يتفق معها الجميع، فالمصادر كثيرة ومتفاوتة في تقديراتها، (رابعاً): لن نكون في وضع مالي أفضل مما نحن فيه الآن، وليس سراً أن العصر الذهبي للبترول أصبح وراء ظهورنا.