تمطر السحابة عادة ثم تغيب بعد أن ترتوي الأرض بمائها، وتخضرّ الحياة. وحين يرحل العظماء، ترحل أجسادهم فقط، لكن أعمالهم، وعطاءاتهم تظل خالدة داخل ملفات التاريخ. تحكي عراقة أمة، وتاريخ دولة، وقدرة على إدارة مفردات حياة آمنة، وهانئة لأجيال. يرحل الكبار، وعند الرحيل يفتح الملف الاستثنائي لهم، من خلال بسطاء الناس، وعامة الشعب، يفتحون الأبواب لمشاعرهم، ودموعهم وأحزانهم عليهم، بعد أن شعروا بأنهم فقدوا العزيز، والحبيب، وأن الخسارة حجمها يتجاوز حدود أحاسيسهم. كنت خارج المملكة، حينما استيقظت يوم الاثنين الماضي على خبر وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز. ظللت لفترة مفزوعة، رغم إيماني المطلق بأن الموت حق. ورغم علمي كالآخرين بأنه كان يعاني منذ فترة، وتوقع وفاته رحمه الله بين الحين والآخر. لكنني مررت بلحظة فاصلة من عدم التوازن والتصديق، لأن تخيل الصورة شيء، ومثولها أمامك شيء آخر. شعرت بفراغ داخلي لا نشعر به، إلا عندما يفارقنا من نحب الأقرب، والأعز. يا الله إلهذه الدرجة كان فهد بن عبدالعزيز يسكن جيلنا؟ ويلفنا، بوجوده، ويحمل عنا مسؤولية الأمان. التفاف سواد الحزن بدا واضحاً على أغلب الملامح التي شاهدتها في ذلك اليوم في الفندق الذي أقيم به، بدا الصمت، والرغبة في اللاشيء، وحزن المكان متوحشاً، ومحفزاً على التقاط كل الصور التي تبثها القنوات الفضائية، والتي كسرت جزءاً من غربة المكان. وأنا أتابع ما يعرض رغم معرفتي المسبقة له، بدت استعادته في كل المحطات ضرباً من الإحساس بالانبهار لعظمة خادم الحرمين فهد بن عبدالعزيز، ومنجزاته. بدت اعجاباً بدروس التاريخ الذي اعتاد أن يُسجل، ونحن غائبون ويستوعب، ويصدر أحكامه المطلقة من واقع بناء حقيقي، وسيرة عطرة فائضة العطاء، قادرة على الاقدام والانفتاح على الآخر، وتوظيف كل ما هو متاح من أجل خدمة الأمتين العربية والإسلامية. لم يعرف نصف السعوديين غير الملك فهد لأنهم ولدوا في عهده فالشاب الذي ولد قبل 23 عاماً درس واستكمل شهادته الجامعية في عهد فهد بن عبدالعزيز ولذلك كان الحزن كبيراً في أوساط الشباب وهم يشكلون نصف السعوديين. لم يطلب من احد أن يلغي أفراحه، لكن صديقة لي في جدة، وأخرى في جازان تقول إن جميع الأفراح ألغيت بأحاسيس ذاتية وبحزن رفض المغادرة، واستوطن جميع المواطنين. هذه الأحاسيس البريئة كشفت متانة النسيج الوطني، وتلاحم الشعب السعودي، وهو القادر على التمازج في الحزن والفرح. لقد غاب فهد بن عبدالعزيز ملك الإنجاز. وملك مبادرات التضامن العربي والإسلامي والذي حرص على دعم الأمة وإنقاذها في كثير من الأحيان بالقرارات الصعبة التي لا يمكن أن يتخذها إلا قائد بقامة فهد بن عبدالعزيز، وبمكانته. غاب فهد بن عبدالعزيز الملك الشجاع، القوي، الذي سعى باستمرار إلى التحديث الداخلي، وبناء الإنسان وتأهيله لأن اساس التنمية من خلال البعثات التي فتح أبوابها للشباب بعشرات الآلاف، وهم الآن يقودون مسيرة التنمية، ويفتحون أبواب المملكة للعالم. غاب فهد بن عبدالعزيز الذي فتح نوافذ الحياة الآمنة للبنانيين مرة أخرى من خلال سعيه الدؤوب لمؤتمر الطائف الذي أعاد لبنان لأهله وللعرب بعد أن دمرت الحرب اللبنانية الحياة والإنسان هناك. غاب فهد بن عبدالعزيز الذي حرص على تعليم المرأة ووضعها على طريق المشاركة الفاعلة في البناء. غاب رجل القفزات الاقتصادية الهائلة الذي جعل من المملكة كياناً اقتصادياً عملاقاً بين دول العالم. غاب من حرص على توحيد الصفوف العربية وأوجعته صدمات الأمة وهزائمها ومحنها. غاب البارع في حديثه، وتلقائيته، وخطبه الارتجالية وجاذبيته المتألقة، وذكائه الحاد، وإطلالته المهيبة. غاب رمز الاعتدال والوسطية، وعاشق بناء المستقبل. يوم الوفاة كان أحد العلماء يتحدث في إحدى المحطات بانجذاب شديد وفخر وإعجاب عن توسعة الحرمين الشريفين وكيف كان يأتي إلى الحج والعمرة منذ ثلاثين عاماً، وكيف أصبحت الآن، وأسهب في الثناء على خادم الحرمين رحمه الله وعلى روعة التوسعة، وعظمة الإنجاز الذي ساعد المعتمرين على أداء شعائرهم بيسر وسهولة، واعتبر أن خادم الحرمين لو لم ينجز في حياته سوى التوسعة لكان كافياً له ليخلده التاريخ. توقفت أمام كلماته والمذيعة ترتدي السواد حزناً، ورغم متابعتي وتلمسي لمشروع التوسعة إلا أنني أعدت استيعاب ذلك الإنجاز العملاق. وحدهم العظماء من يشكلون من ألوان الحلم والتخيل حقيقة، ويحاولون رسم الحياة كما نريد تصورها. غاب الملك فهد بن عبدالعزيز بجسده لكن التاريخ لن ينسى العظماء كعادته غاب الفارس ومصير الفرسان أن يترجلوا ذات يوم. غاب فهد بن عبدالعزيز لكن الامتيازات التاريخية التي منحها لأمته لن تغيب، من ملامح حياة آمنة، وتمسك بالثوابت، وحرص على فتح أبواب الحياة للمستقبل. غاب فهد بن عبدالعزيز صانع الإنجازات، لكنه سيظل حاضراً في ذاكرة التاريخ، وأفئدة الناس يحصد وهو الغائب امتيازات الزمن الذي صنعه بمعيار البقاء.