قررت «هيفاء» الأخت الكبرى أن تجمع عائلتها حول مائدة إفطار أول أيام العيد، ووجهت دعوتها بكلمات رقيقة إلى إخوانها العشرة، متمنيةً من الجميع قبولها، والاجتماع في بيت والدتهم، وعلى الرغم من خوفها من اعتذارهم، إلاّ أنّها كانت تمني النفس باجتماع عائلي حميم، عازمةً في نفسها على إذابة الجليد من قلوبهم، ومحاولة حل الخلاف القائم بسبب الإرث الذي تركه والدهم، والذي تحول لعداوة وضغينة بين الأشقاء العشرة.. عقارب الساعة كانت تقترب من الموعد المحدد، وكل مظاهر الفرح بالعيد كانت مهيأة لاستقبالهم ولكن ما أن حان الوقت لتناول طعام الفطور حتى تفاجأت «هيفاء» برفض الأخوة الجلوس حول طاولة الطعام، وغادر بعضهم البيت من دون أن يعتذر، ومن احترم الدعوة ظل يكيل الاتهامات لأخيه الذي يجلس بجانبه، معتبراً أنّه كان سبباً في مماطلة تسلمه حقه من ثروة أبيه، وأن «ولا مليون عيد بإمكانه أن يذيب الغضب الذي يعيشه»!. «عيد الورثة» الذي لم يحضره أحد، عيد لا مساحة للفرح فيه والغياب هو الحدث المؤكد له، فالورثة المتخاصمون يعيشون كأشباح فوق أنقاض فرحة العيد، يعانقون القسوة، ويصادقون الوهم، ويحتسون شراب القطيعة، ويتبادلون التهاني الباردة في المناسبات السعيدة، ويشتاقون إلى احتضان الغربة في قلوب تشاركهم غربة المشاعر الأخوية، فيزداد البعد العاطفي داخل كيان الأسرة المهتز بسبب الإرث، الذي حول الإخوة إلى خصوم فوق مسرح الحياة. ظلم ذوي القربى بيّن «عبدالله» -(88) عاماً- أنّ والده توفي قبل ميلاده بأشهر، وتوفيت والدته أثناء الولادة، وخرج بعد أن أتم دراسة المرحلة الابتدائية من دار الأيتام، ليعيش في كنف خالة والدته، والتي زوجته من ابنتها، لينتقل بعدها ليعيش في مكةالمكرمة بحثاً عن لقمة العيش، مضيفاً: «ظلمني أخي من والدي وحرمني من حقي، مستغلاً صغر سني، وجهلي، ووحدتي، وحرمني من كل شيء، ولم يتكفل حتى بتربيتي ورعايتي، وتركني في دار الأيتام رغم أنني انتمي لعائلة كبيرة، وعندما تدخل أهل الخير لمساعدتي أنكر وجود حق لي!». مطالبة بالحقوق ولفت «عبدالله» إلى أنّه انشغل بحياته وبتربية أبنائه، ولكن لم ينشغل عن المطالبة بحقه، وكان يستغل كل المناسبات السعيدة في حياة أخيه، مثل زواج ابنه، أو ميلاد حفيده، أو مناسبة دخول شهر رمضان والعيد؛ لتذكيره بحقه، ولكن كان يردد دائماً: «شهور الله كلها واحدة!»؛ مما زاد من غضبه عليه، منوهاً بأنّه مر بضائقة مالية، وعندما حاول الإتصال به لمساعدته كان يتهرب منه، واضطر للاستدانة من الأصدقاء، إلى أن توفاه الله، مضيفاً: «لقد رفضت حضور عزاء أخي، ودعوت الله أن لا يسامحه أبداً، ولست نادماً أبداً». شقة الأرملة ونوّهت «وفاء محمد» بأنّ الميراث تسبب في قطيعة بينها وبين إخوانها الأربعة، الذين أخفوا عنها بعض المستندات التي تثبت حقها في امتلاك شقة في عمارة والدها الذي توفاه الله لتعيش فيها، وذلك بسبب رفضهم أن تسكن وحيدة، على الرغم من أنّ العمارة للعائلة، وظلت طيلة سبع سنوات تنتقل بين بيوت إخوانها، وشنطة ملابسها تشاركها الرحلة الأسبوعية، موضحةً أنّه تم تأجير شقتها لابن أخيها الأكبر، وتوزيع الإيجار بينهما، والذي بالكاد كان يفي بمتطلباتها الشخصية، مضيفةً: «اكتشفت وبالصدفة من أحد أصدقاء والدي المقربين بأنّه خصص شقة للأرملة والمطلقة، والتي لم تتزوج من بناته الخمس، وعندما راجعت المحكمة أكّد لي القاضي ذلك، وأنّه مسجل بأوراق رسمية، وأمام رفض اخواني استلام حقي استعنت بالشرطة، التي أخرجت ابن أخي بالقوة وتسليمي الشقة، ومعها بدأت القطيعة من الجميع، رغم أننا نسكن في منزل واحد، إلاّ أننا إخوة بالاسم فقط، حتى في العيد يرفضون استقبالي، ولا يشاركوني مناسبات أبنائهم السعيدة». تفرقة اجتماعية وأكّد «د.ماجد قاروب» -مستشار قانوني ونائب الرئيس والأمين العام للغرفة العربية للتحكيم والتوفيق- على أنّ الميراث يعدّ من أكثر الأمور وضوحاً في الشريعة الإسلامية، ولكنه يواجه مشاكل قانونية وقضائية تؤدي إلى قطيعة الرحم، وحدوث خلافات كبيرة بين الأسر والعوائل، والتي تدوم في المحاكم لسنوات طويلة، وذلك ليس بسبب غموض في النص الشرعي أو القانوني، فالميراث قضية اجتماعية ذات واجهة شرعية وقانونية وقضائية، موضحاً أنّ أي شخص من الورثة سواء تحالفوا أو كانوا أفراداً لا يرغب في أن يتحالف مع الشيطان على حساب إعطاء كل ذي حق حقه، مشدداً على أنّ الآباء يلعبون دوراً كبيراً جداً في المآسي التي يقع فيها أبناؤهم وورثتهم بعد وفاتهم، وذلك إما لسوء التربية، أو للتفرقة الاجتماعية بينهم، أو لتعدد الزوجات، أو لعدم المساواة فيما بين الأخوة في المحبة والصرف، أو تفضيل جزء من الأخوة على بعضهم، أو تمييز زوجة وأبنائها الصغار وحظوتهم برعاية أكثر من إخوتهم الكبار. أول الضحايا وذكر «د.قاروب» أنّ جميع الأسباب والتي فيها الكثير من الغموض تؤدي إلى العديد من المشاكل، والتي تظهر عادةً بعد وفاة المورث، وبوادرها بمثابة الرماد الذي ينذر بنشوب الحريق، وهذا ما نراه في كثير من قضايا التركات العائلية، والتي تتعرض فيها العائلات لمشاكل خطيرة، فبعض السيدات يملكن على الورق ثروة، وبسبب الخلافات العائلية والميراث يعشن على الصدقات والإحسان، وبعض الشركات ينتهي وجودها، منوهاً بأنّ الزوجات والبنات والأبناء القصر هم أول الضحايا. خلاف قضائي وأوضح «د.قاروب» أنّ مشاكل الإرث أصبحت ظاهرة اجتماعية، وبات من النادر أن ينجو من هذه الأزمة أي عائلة ترث؛ بسبب أنّ الكثير لا يخططون لمرحلة ما بعد الموت، وقد تتعطل تنفيذ وصية لهذا السبب، كما أنّ القضاء لا يعاقب المماطل في قضايا الارث، مضيفاً: «ما نراه من عدم التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة أمور نشهدها؛ لأنّ الثقافة بالمجتمع لا تحترم فكرة التقاضي لوجود الخلاف، فيصبح خلافا شخصيا عوضاً عن أنّه خلاف حقوقي، فما الذي يمنع أن يختلف بعض الورثة بكل ود واحترام، ويحتكموا للقضاء فيما اختلفوا فيه، على أن تظل صلة الرحم هي الرابط الذي بينهم إلى يوم يبعثون». تصفية القلوب وقال «د.إبراهيم الجوير» -استاذ علم الاجتماع-: «الخلاف على الميراث مسألة لها عمق ديني واجتماعي، والحل المناسب لها يتمثل في سرعة تقسيمه، فإذا قسم بسرعة استطعنا قطع دابر الخلاف بين الورثة؛ لأنّ تأجيله يتسبب في نشوء اتهامات وقطيعة، سواء بين الأخوة والأخوات أو الورثة بشكل عام، وشهر رمضان كان فرصة مناسبة ليستفيد فيها الإنسان في تصفية قلبه وروحة، لتعلو وتكون في منزلة يتحرى فيها القبول من الله سبحانه وتعالى، أما إذا كان في قلبه شيء من المحن وعدم الصفاء لإخوته فإن ذلك نذير بعدم قبول العمل الذي يجتهد فيه». تراب المادة وأضاف «د.الجوير»: «العيد فرصة ثانية للفرح الذي يمكن وصفه بالفرح التعبدي كونه جزءا من العبادة، ومن مقومات الفرح ذلك السلام واللقاء والصفاء بين الأحبة والأقارب والأخوة، ويجب أن لا يجعل الورثة يدعون شيئا من تراب المادة التافه -مهما كثر- أن يفرق بينهما، مقابل الصفاء والسعادة والشعور الذي يدخله العيد في النفوس، وإذا جاءت المادة لتفرق بين الأخوة والأخوات، فهذا من المشكلات المؤلمة التي ينبغي أن يلتفتوا لها ويحاربوها، وأن ينظروا للعيد كمناسبة تسامح للارتقاء بالنفس من مسألة البحث في ماديات الدنيا وخيرهم من يبدأ أخاه بالسلامة وخيرهم من يدعوا بقوله: (ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم)، فهذه المشاعر المليئة بالفرح والسرور والرضا بأنّ الله أكمل عليهم شهر رمضان، وأكرمهم بالعيد يكتمل بهذه المشاعر الفياضة من الصدق والمحبة والإخاء والنظرة للقبول من الله سبحانه وتعالى، بغض النظر عن مشكلات الإرث، وما جرها إليهم من محن ومخاصمات». ضعف الثقافة وأشار «د.الجوير» إلى أنّ الخلافات التي تحدث نتيجة لعدم الإلمام ومعرفة الحكم الشرعي في الميراث لكل وارث، وقد يتخذ من جهل الآخرين بحقوقهم ذريعة لحرمانهم من حقوقهم، كأن يحرم الأخ إخوته أو إخوانه، وينسب هذا الحرمان للمسائل الشرعية، وأنهم لا يرثون، وهذا لعدم إلمام المحروم من حقه الشرعي؛ نتيجة لضعف الثقافة الشرعية والحقوقية، ودخول أطراف أخرى في الميراث من أقارب أو أشخاص مؤثرين لبعض الورثة، وقد يكون بسبب ضعف شخصية الورثة؛ مما يسمح بتدخل الآخرين في توزيع الميراث، ويفترض أن يتم حل هذا الخلاف بعد وفاة المورث مباشرة وتوزيعها باتفاق جميع الورثة. خلافات ومنافسات وارجع «د.الجوير» أسباب الخلافات إلى الطمع والجشع، أو نتيجة فتن داخلية بين الأسرة، أو بسبب سوء توزيع التركة، وذلك حسب النصاب الشرعي، إذا تم بيع عقارات من دون موافقة الورثة، أو خلافات مع الصندوق العقاري؛ بسبب افراغ المنزل للورثة ومستحقاته، أو الزوجة الثانية، أو أبناء الزوجتين، فكل زوجة تريد أن تستحوذ على قدر أكبر من الحصة بالمنافسة مع الزوجة الثانية، أو أن تكون له زوجة سرية ويكون توفي ولا أحد يعلم، وهنا تبدأ إجراءات إثبات نسبهم، ومسألة الزوجة التي قد يكون أثبت أنّه طلقها قبل وفاته. التقاضي يحمي الحقوق ولا يفرق بين الإخوة توزيع الإرث قبل وفاة الأب يحافظ على أواصر المحبة بين الأبناء د.ماجد قاروب د.إبراهيم الجوير