تمنحنا الأحداث في كُلّ من مصر وتونس وليبيا - بكل ما فيها من عنف ودموية وتعسف، وتكاذُب علني مشوب بكل أنواع السقوط الأخلاقي/ الإنساني - فرصة استثنائية نقرأ من خلالها مجمل المقولات التي رافقت مسيرة التحول الديمقراطي، كما هي - في الوقت نفسه - فرصة سانحة لقراءة مواقف أولئك الذين وضعوا أنفسهم في موضع الريادة لهذه المسيرة التحررية المتعثرة، زاعمين لأنفسهم حق مَوْضعة تلك المقولات في الواقع العملي، لا على سبيل الاختيار، بل على سبيل الاحتكار المضاد للمبدأ الديمقراطي ابتداء. أيضا، مِن وراء هذه القراءة وتلك القراءة، تمنحنا هذه الأحداث فرصة نادرة لأن نقرأ مسيرة الإنسان العربي، أقصد: نقرأه في مسيرة وعيه الذي يتجلى من خلال موقفه - كفاعل وكمنفعل - من كل هذه الأحداث التي يتعرى فيها العقل العربي، لا في راهنيته فحسب، وإنما - أيضا - في مشروعيته التاريخية التي أنتجت هذا الراهن البائس؛ لنستطيع - إذا ما وعينا الراهن من خلال التاريخ المُشرعِن، ووعينا التاريخ من خلال الراهن المُفسّر - تحديد خياراتنا المُستقبلية/ المصيرية، وتقرير: أية وِجْهة نريد. ليس في العرف الديمقراطي أن إنسانا أهم من إنسان أو أن حقوق إنسان ما، هي التي تخضع لقوانين الحقوق، بينما حقوق الآخر (المادية والمعنوية) يجوز انتهاكها لمجرد الاختلاف في الانتماء ما حدث ويحدث اليوم في دول (الربيع العربي) لم يكن مفاجأة لكثير من المفكرين، بل كان هو المتوقع الذي أصبح واقعا. ولو أن مسيرة التحول الديمقراطي التي دعت إليها موجة الغضب الربيعي سارت إلى غاياتها المعلنة - نضاليا - دونما ارتدادات رجعية، وكوارث استبدادية، وانحرافات أخلاقية، وفيضان فوضوي أعمى؛ لكان على المفكرين الاستشرافيين (الذي امتهنوا قراءة العقل العربي من خلال مكوناته الأساسية، لا من خلال شعاراته العاطفية الآنية) أن يتشككوا في سلامة عقولهم، وأن يعيدوا مساءلة نظامهم المعرفي بالكامل، إذ لا قيمة لمعرفة لا تستطيع - من خلال منطوقها العام، المنطوق الإجماعي الذي تتأكد عموميته من خلال تضافر مكونات التنوع - أن تكشف ما تعلنه آلاف الوقائع، وما تنطق به عشرات الألوف من الأقوال. لقد لاحظ الباحث القدير: حازم صاغيّة، في كتابه (الانهيار المديد، الخلفية التاريخية لانتفاضات الشرق الأوسط العربي) أن الشعوب العربية تبحث عن الحرية، وتتوق إليها، بينما هي لا تسعى - حقيقة - إلى الديمقراطية ولا تؤمن بها، مؤكدا أن طالب الحرية هو السجين الذي يريد الانعتاق من أسر سجّانيه، بينما الديمقراطية يرسمها إقدام الأحرار على بناء برلمانات ومدارس ومؤسسات، أي أن الحرية إذا كانت خطوة على طريق الديمقراطية، فهي لا تشترطها قبْليّا بالضرورة. وهذا يتضح - كما يؤكد حازم صاغيّة - من خلال ملاحظة أن الديمقراطية تعمل أحيانا على الحدّ من الحرية، فمثلا، حب الحرية في العراق لم يكن كافيا لجعل العربي والكردي، والسني والشيعي يحب أحدهم الآخر. ومبعث ذلك أن الحرية صراعية بطبيعتها، بينما الديمقراطية شرطها الاستقرار، فيما اشتغالها توافقي. إذن، الحرية حالة فطرية متأصلة في الوجود البدائي للإنسان. ولذلك آمن بها العربي (أقصد: الإنسان العربي الطبيعي، ولا يدخل في هذا من تملكته الإيديولوجيات الشمولية ذات النفس الفاشي؛ فألقته في متاهات العبودية الاختيارية)، وناضل في سبيلها منذ تمرد صعاليك العرب وإلى تمرد حركة تمرد، في حالة تشي بكراهية الانتظام الذي يستلزم - بالضرورة - مستوى من التوافق القائم على التضحية بكثير من الحريات. لقد أثبت الإنسان العربي الذي "يشرب إن ورد الماء صفوا ويشرب غيره كدرا وطينا"، والذي "له الصدر دون العالمين أو القبر"، و الذي "تُؤخذ الدنيا غلابا" في نظره، أنه غير قادر على الخضوع للشرط الديمقراطي الذي يبدأ بتقرير المساواة التامة على أساس الوجود الفردي (أي بطرح جميع الأطر الانتمائية جانبا، مهما كانت قيمتها الدينية أو المذهبية أو الجنسية أو الإثنية أو القبلية أو المهنية)، بوصفه (= الفرد) وحدة وطنية أولى، قيمتها في ذاتها تحديدا، تتمتع بكامل الاستقلال عن بقية الأفراد، في الوقت الذي تنتمي فيه إلى النظام المدني الذي يحكم الجميع، ملتزمة بكل ما يفرضه هذا الانتماء من شروط وقيود، هي شروط وقيود الحرية بطبيعة الحال. الديمقراطية بناء وتشييد متواصل ومتراكم، بناء على مستوى العقل/ الوعي، وعلى مستوى المؤسسات الفاعلة (وهي إحدى تجليات الوعي)، بناء متصاعد لا يمكن أن يتحقق إلا بعد مجهود تراكمي في مدى زمني طويل. وهو مجهود إضافي على الطبيعة، أي يستلزم كبح النزوات العاطفية المرتبطة بالوجود البدائي للإنسان (وهي التي لا تزال تتحكم في وعي = واقع الإنسان العربي)، مع ترويض مستمر لتحمّل العمل الدؤوب المنتظم في السياق الحضاري، ومن ثم، العمل المؤمن بالأبعاد التواصلية للإنسان. هذا فيما يخص الديمقراطية. أما الحرية، فهي - في تموضعها الأولي - فوضى، والعرب فوضويون إلى أبعد الحدود. ومن هنا يستجيبون لها - في بُعدها الفوضوي تحديدا -؛ كما تستجيب لهم. ولكنهم - فيما وراء ذلك - لا يستجيبون لشروطها المُؤسِّسة، أي ليس لديهم استعداد لتحمّل الأعباء المادية والمعنوية التي تترتب على تحويلها إلى حرية تفرض مسؤوليتها على ممارسيها عن إيمان واقتناع. عندما ثارت الجماهير في مصر وتونس وليبيا واليمن (ولا يشمل هذا التوصيف سوريا التي تخوض حربا أهلية يتقاطع فيها - على نحو معقد - إرهاب السلطة المستبدة مع إرهاب قوى التقليد التي تقتل على الهوية بلا رحمة) ثارت على الاستبداد، كانت تبحث عن حريتها المفقودة، دون أن تمتلك تصورا مُسبقا عن هذه الحرية، بل حتى دون أن تستطيع الإمساك - وعيا - بملامحها العامة، وذلك لسبب بسيط، وهو أنها لم تجرّب هذه الحرية من قبل، لا على مستوى التخيّل، ولا على مستوى الوعي النظري، ولا على مستوى التطبيق العملي. فهي كانت تمتلك كل أشواق الحرية، ولكنها بقيت مجرد أشواق غامضة، تلوح في سماوات الوعي الفوضوي قاذفة بأصحابها إلى متاهات المجهول، لا إلى مسارات المعقول. إذن، كانت الديمقراطية - على ضوء هذا المسار العقلي، ومن ثم الواقعي - مستحيلة، وكل تجربة حاولت أن تجترح هويتها، وأن تتمأسس في الواقع، إنما كانت تبني مشروعها على شفا جرف هار من الوهم المستحيل. أقول هذا بكل ألم، أقوله اليوم؛ كما قلته قبل سنتين، وذلك في فورة الابتهاج الجماهيري بسقوط أنظمة القهر والاستبداد، يوم كانت الديمقراطية في نظر معظم الحالمين واقعا يتحقق! إن الارتداد عن الديمقراطية وهي ما زالت في طور التشكل الأولي ليس خروجا عن السياق، ليس تطورا خارج سياق الثقافة السائدة، كما وأنه ليس تطورا خارج سياق متتاليات الحدث الواقعي. كل الفرقاء، من إسلاميين وعلمانيين وليبراليين ويمين ويسار... إلخ مكونات المجتمع العربي لم تكن آليات الديمقراطية (بما في ذلك شعاراتها) تُمثّل لهم أكثر من وسائط للدخول إلى حرم السلطة المقدس. ولهذا، عندما لا تلبي هذه الديمقراطية مطامع أيا من هؤلاء؛ فإنه سرعان ما ينقلب عليها بشراسة مسعورة تقوده إلى استباحة كل المحرمات، وإلى التنكر لكل المبادئ، وإلى خيانة كل المواثيق والأعراف. لقد رأينا الإسلامي الذي ينتمي إلى التقليدية الأثريّة ينتهك مبادئ الإسلام العليا وأخلاقياته الكبرى، كما ينتهك القيم المؤسسة للديمقراطية التي يعمل من خلالها، و(يدّعي!) الإيمان بها، رأيناه انتهازيا أشد ما تكون الانتهازية سقوطا ومهانة، بل وغباء، بقدر ما رأينا مُدّعي الليبرالية (وليس الليبرالي الحقيقي المنحاز للإنسان أيا كان انتماء هذا الإنسان) منقلبا على مبادئ السلمية التي يتمسّح بها، ومُتنكرا لمبدأ القبول بالاختلاف، بحيث بدا هذا المتشدق بقيم الليبرالية في صورة دكتاتور حائر ينتشي بكل صور الإلغاء التي تمارس ضد أعدائه التاريخيين، بل لقد وصل الأمر ببعضهم إلى الابتهاج الغوغائي والأحمق بكل ما يجري من تجاوزات صارخة تنتهك أبجديات حقوق الإنسان، والتي قد تصل أحيانا إلى القتل العمد بالذخيرة الحيّة. فالتأييد المعلن، وأحيانا السكوت (وهو التأييد الضمني الذي يضمن الشراكة في الجريمة) حيال الدماء المسفوحة، هو - للأسف - السلوك الذي يطبع سلوكيات مُعظم عَرّابي التيار المدني، كما يطبع سلوك معظم عَرّابي الإسلام السياسي. إن الديمقراطية تسقط عندما لا يؤمن كل طرف بأن كل فرد ينتمي إلى أي حزب أو أي تيار أو أي دين له ذات الحقوق الإنسانية، كاملة غير منقوصة، بحيث يكون الاعتداء عليها (ممثلة في أي فرد) اعتداء على حقوق الجميع، على الكل الإنساني، إذ ليس في العرف الديمقراطي أن إنسانا أهم من إنسان أو أن حقوق إنسان ما، هي التي تخضع لقوانين الحقوق، بينما حقوق الآخر (المادية والمعنوية) يجوز انتهاكها لمجرد الاختلاف في الانتماء. لم يكن الخوف على الديمقراطية من أعدائها الأصلاء، أي من أولئك المتربصين بها لكونها تتعارض مع مصالحهم بالضرورة، وإنما كان الخوف عليها - بالأساس - من حاملي مشاعلها، ومن الحالمين بها، أولئك الذين يتعشّقونها دون أن يدركوا أنهم ينتهكونها، أو حتى دون أن يدركوا أن نمط التفكير البدائي الذي ينتهجونه في التعاطي مع الشأن السياسي سيقودهم حتما - و من وراء حدود التفكير الواعي - إلى الانقضاض على المشروع الديمقراطي الذي كان حلما لم يكد يتحقق في الواقع؛ رغم كل صور الاحتفاء الاستعراضي بالمشروع الوليد. ربما يكون المفكر اللبناني الكبير: علي حرب، من أوائل المفكرين العرب الذين احتفوا بالاحتجاجات العربية الغاضبة (= ثورات الربيع!)، وهو ما بدا واضحا في كتابه الذي خصصه لهذا الموضوع (ثورات القوة الناعمة في العالم العربي)، ولكنه مع كل ما أبداه من احتفاء وتعويل إيجابي على الشباب الصاعد المتحرر، كان - في الوقت نفسه - متخوفا من حجم استعصاء الواقع، بل ومن احتمال أن تنتج الثورات عكس ما تطمح إليه. وهذا ما صرّح به (تحت عنوان فرعي استشرافي: "كي لا تنتج الثورات عبودية جديدة!") إذ قال ما نصه ص 131: "قد يسهل هدم نظام بأقصى سرعة وبأقل التكاليف كما حصل في تونس وفي مصر. ولكن بناء نظام جديد هو الأصعب، لأنه يحتاج إلى تغيير منظومة القيم والنماذج والأعراف والتقاليد التي تنبني بها السلطات، وتترسخ بصورة غير واعية". وهذا - للأسف - ما أصبح واقعا؛ لأن منظومة الوعي بأكملها ما زالت منحازة إلى خيارات الاستبداد، ما زالت تمتلك حنينا غامضا إلى رموز الطغيان وإلى أزمنة الطغيان، ما زالت تحارب الاستبداد باستدعاء مزيد من الاستبداد. في مصر، ومنذ الأسابيع الأولى لموجة الغضب (= الثورة!) أدركت إلى أين يتجه الخيار الجماهيري، وذلك عندما رأيت صور عبد الناصر تتسيد المشهد. لقد رفعت الجماهير التي تطالب بالحرية والديمقراطية صوره وكأنه المقابل الضدي لمبارك الذي كان موضوع الغضب الجماهيري آنذاك، أي كأنه (= عبد الناصر) لم يكن ديكتاتورا بامتياز، وبشهادة الأصدقاء والمُريدين الأوفياء (والأغبياء في الوقت نفسه) قبل الأعداء. إنني وبمجرد أن رأيت المشهد الكاريكاتوري المستفز (رمز استبداد يُستخدم كرمز للحرية!)، أدركت حجم الحماقة التي تتلبس موجة الغضب الثورية، إذ بدا أنها لا تزال تتجه بخياراتها إلى الماضي، بل إلى أسوأ ما في الماضي، رغم ادعائها أنها تجترح مستقبلا واعدا. ولعله ليس غريبا أن تُرفع تلك الصور المُصنّمة مرّة أخرى فيما يُسمّى بالثورة الثانية. طبعا هذه المرة ربما نكاية بالإخوان، وذلك بتصنيم عدوهم التاريخي. لكن ما يهم في كل هذا، هو أن العقلية (في كل هذه المراحل المتباينة في ظروفها وشخوصها) هي ذاتها لم تتغير، إنها العقلية التي لا تزال تعاني أسوأ حالات الكساح؛ إن لم يكن الجنون، بحيث لا تعيش إلا في حدود خيارات الماضي، خيارات الماضي فقط: إما ناصرية وإما إخوان.