تعيش أمتنا انفراجاً في أحوالها، وضيقاً وابتلاء في جوانب من جسدها، وتعاني من التفكك والتمزق في أعضائها. وفي سورة الأنفال جزء مهم جداً من علاجها. وتسمى بسورة بدر، وبدر مكان قرب المدينة حيث التقى على أرضه الجمعان، واقتتلت الفئتان، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة . فنزلت سورة الأنفال في هذه الغزوة، وسبب نزولها اختلاف المسلمين في الغنائم، فافتتحت السورة ببيان حكمها، وقسمتها، ومصارفها. وتكرر الأمر فيها بتقوى الله، والأمر بطاعة الله، ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وأمرت المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وأن التكاتف والتآلف هو أحد أهم مقومات الإيمان (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله، إن كنتم مؤمنين). وفيها بيان أثر ذكر الله، والقرآن في قلوب المؤمنين، وأن التأثر بها والوجل منها نتيجته العمل (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون). فالوجل، والخشوع، والدموع التي تذرف عند سماع القرآن، أو عند تلاوته، لا بد أن يظهر أثرها على جوارح المؤمن، فلا يمكن أن يكون مضيعاً للصلاة، مانعاً للزكاة، بخيلا بالصدقات، ضعيف التوكل على الله، إلا إذا كان الوجل والخشوع كاذباً ورياء وسمعة! والارتباط بين هذه الصفات وبين الإيمان ارتباط تبادل وتعاون، فالصلاة والصدقة والذكر يقوى بها الإيمان، والإيمان ينتج هذه الأعمال، فبينها تناسب وثيق، فكلما قوي إيمانك زادت أعمالك، وكلما زادت أعمالك وخلصت نيتك قوي إيمانك. وقد ختمت سورة الأعراف، قبل سورة الأنفال بالأمر باستماع القرآن والإنصات له، وأمرت بذكر الله بالغدو والآصال. وركزت سورة الأنفال على ذلك، لأن الذكر والإيمان هما مفتاح النصر المبين. وتأمل قوله في وسط السورة (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). فعوامل جلب النصر مبدؤها من إصلاح ذات البين، فلا يمكن أن ينتصر قوم وبينهم من العداوة والبغضاء، والشحناء ما الله به عليم . وكيف ينصر الله قوماً يتحاسدون، ويتباغضون، ويكيد واحدهم للآخر ويفرح بمصابه؟ ومن أهم عوامل جلب النصر والتأييد من الله حسن التوكل عليه، فإن المسلمين في بدر لم يكن لهم بد من ملاقاة عدوهم، وكان عدوهم يفوق قدرتهم مادياً، فعدده وعدته أكثر منهم حتى بلغ ثلاثة أضعاف، لكنهم صبروا وعلى ربهم توكلوا فكانت العقبى لهم (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين). وحتى لا يشوب توكلهم شائبة من الاعتماد على غير الله تعالى ركز سبحانه مع ذكر المدد من ملائكته على أن النصر ليس إلا به ومنه (وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم). وفي السورة وقفات لا يمكن حصرها ولا حتى التركيز عليها في مثل هذه السطور القليلة، ولكني أشير إلى مهمات عامة تناسب وقتنا، وتوافق حالنا، وترشدنا إلى مكامن الخلل فينا، وطريق العلاج الذي لا بد أن نأخذ به حتى يُذهب الله عنا رجز الشيطان، ويثبت منا الأقدام. فالسورة تقرر أن لقاء العدو وإن كان المرء مكرهاً عليه فإن الخيار الرباني حكمته أبلغ، وإن لم تظهر إلا بعد حين. فالمؤمنون كانوا يكرهون الخروج والقتال، (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) ولكن الله تعالى أراد شيئاً وقضى أمراً (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق، ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). ولو نظرنا في واقع أمتنا اليوم عبر هذه السنن الربانية لانفرجت منا الأسارير، وابتهجت منا القلوب، ثقة بوعد الله، وانتظارا لنصره. وقررت السورة أمراً مهماً ينبغي أن لا يغيب عن ذهن المسلم مهما كانت الظروف المحيطة المحبطة حوله، ألا وهو نص الله تعالى على أنه (موهن كيد الكافرين) فتدبير الكافر وبال عليه، ومكره مكر بنفسه، (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين) فإذا جمعت مكر الله بهم، وتوهينه لكيدهم علمت أنهم لن يضروك إلا أذى، وأنهم وإن أنفقوا الأموال الطائلة تنصيرا، ودعما للمنافقين، وصرفوا على تشويه سمعة المؤمنين، وفت عضدهم، وتفريق كلمتهم، فهم خاسرون لا محالة (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون). ومما تقرره السورة أيضا، وهو مهم جداً، أن الكثرة بغير الله لا قيمة لها ولا أثر (ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت) وعادت القضية للإيمان مرة أخرى (وإن الله مع المؤمنين). ولكي تكون جديراً بنصر الله ومعيته فلا بد من طاعته، وطاعة رسوله (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله، ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) تسمعون الأمر بذلك، تسمعون آياته تتلى عليكم، تسمعون نداءه لكم، تسمعون الحق، وتعقلون قوله (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فالحياة الحقة هي التي يدعونا إليها الله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم. حياة العز، حياة النقاء والصفاء والذكر والدعاء، حياة الحب والمودة، حياة تتآلف فيها القلوب وتتماسك الأيدي (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم). فالسورة تذكر أسباب النصر بعرض مبسط متنوع، وتضيف هنا بالنهي عن الخيانة لله ولرسوله، وعدم الاغترار بالمال والولد، وتحث مرة أخرى على التقوى، وأن التقوى هي جالبة العقل المحنك، والفهم السديد، (لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون. واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم) (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم). وتركز الآيات أيضا على الصبر، إذ هو مفتاح النصر الذي لا يستعصي عليه قفل عسر أو بلاء (واصبروا إن الله مع الصابرين) (إن يكن منكم عشرون صابرون) (إن يكن منكم مئة صابرة) (والله مع الصابرين) وبينت السورة أهم أسباب دفع العذاب ورفعه عن الأمة (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) فرفع البلاء يحتاج إلى اعتراف بالذنب وانكسار بين يدي الرب، وذل له وخضوع، ولهج اللسان والقلب معه بالاستغفار والتوبة. فجالب النعم، ودافع النقم، هو الاستغفار، فاستغفروا الله لعلكم ترحمون، وتصدقوا على أمتكم، وانصروها بكثرة الاستغفار، والتوبة إذ عجزتم عن نصرتها بالمال والنفس، وقد أمرت الآيات المؤمنين بالإعداد لعدوهم ما استطاعوه من قوة، ولا أخال أحداً يعجز أن يعد للعدو صلاة، وصياماً، وصدقة، وذكراً، وصلاحاً، وأمانة، وألفة، واستغفاراً. فمن عجز عن هذه فليس له في الأنفال حظ ولا نصيب، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . وإن فعلتم كان الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير.