في ممر الحياة الطويل، وعبر طرقاتها المعتمة، ومن نقطة البدء التي تخلقنا أطفالاً، نعيش ونكبر بقلب واحد يحب ويكره ويلتصق وينقاد ويتبع، ويسكن ويلتحف ويسعد، ويكون أكثر عرضة للانفعال، وكذلك التأثر والبقاء والوفاء لمن يجاورهم في الحياة. نعيش بكل ما يمكن أن يتكاثر بداخلنا من كائنات صغيرة، تحن وتبقى مرتبطة جداًّ لوجوه تسكن معنا، تحيطنا بالود، أو ربما لا تحيطنا، لكننا أيضا نلتصق بها، ونحبها.. نعيش معها كل مايمكن أن يعاش في هذه الحياة الجافة ونتطلع إلى سماء عريضة تحمل مابداخلنا صوبهم من انتماء، نعيش كل تلك الأجزاء من اليوميات المتواصلة ونظن بأننا مرتبطون بمن نحب في الحياة لا شيء أبداً يستطيع أن يغيّر فيها أي من ثوابتها التي وضعناها في إطار تلك العلاقات.. نبتسم ونبكي، نفرح ونحزن، ننجح ونفشل، قريباً منهم نفعل كل ذلك.. نمر عليهم كما يمر الطائر على عشه ليتفقد صغاره ولكنه يحلق بعيداً وفي كل مرة يعود ليتأكد من وجود صغاره.. بكل ذلك القدر من العفوية في الحياة.. نعيش مع أحبابنا، نظن بأن كل شيء في الوجود من طبيعة وجد ليجعل منهم جزءاً من تلك الطبيعة التي لا يمكن أن تخترق أو تتغيّر.. نعتقد -كثيراً- بأنه لا فقد أبدا معهم، نعيش تحت ذلك القدر الكبير من الأمان ونشبع من فرط ذلك السلم في علاقاتنا معهم، نثق بكل ذلك الحجم من الثقة بأنهم لن يغادروننا أبداً.. لن نفقدهم يوماً.. فمعنى الخسارة بعيداً جداً معهم؛ فالأشياء التي نحب في الحياة تبقى فوق مستوى الشبهات!. مازلنا نشعر بهم في كل الأمكنة لأنهم مازالوا هنا في القلب.. حتى إن غابوا ولن نلتقيهم أبداً هيبة الموت ونعيش لحظات الفقد والخسارة لوجوه سكنت قلوبنا بقدر فاقع، يأتي الموت ليسكن معنا ويختار من وثقنا جداً أن نبقى ملتصقين به منذ الطفولة، يباغتنا الموت بكل الحضور المسيطر الذي له بكل تلك الهيبة؛ ليخطف منا وجهاً أحببناه كثيراً لم نتشبث به لأن وجوده كان جزءاً من كينونة الحياة الطبيعية، لأنه كما الهواء، كما الماء والسماء وقصة من النهار والليل.. يرحل.. دون أن يقول لنا وداعاً.. يغادرنا بكل تلك القسوة لمعنى الفقد الذي لم نستعد له يوماً، ولم نحضر معنا أشياء تلائم مآتم الفقد والخسارة التي نشعر بها في لحظة الفقد.. فنحن عند لحظة الصدمة الأولى وربما الأخيرة التي نبقى ذائبين في لحظة شراسة الشعور بالفقد والغياب الذي معه لن نرى من كان جزءاً من حياتنا.. نبقى تحت تأثير تلك اللحظة التي معها يصعب كثيراً أن نفهم.. كيف حدث ذلك؟، وماذا يجب علينا أن نفعل؟. الصدمة الأولى نعيش الفقد ونحن غير مستعدين له أبداً.. نتمدد أمام سطوة الموت، ننفجر من البكاء، نصرخ ونتشبث بكل وهم يعيد إلينا من خسرناهم وذهبوا، نطلب من أحدهم أن يصفعنا على الخد الأيمن حتى نستيقظ من ذلك الكابوس ولكن لا شيء من ذلك يحدث.. فهذا هو الفقد.. وهذا وجعنا نحن.. معذبين به، مطعونين به، موجوعين بكل ذلك القدر من السرقة التي نشعر بها تمزقنا لمن أحببناهم، حيال كل ذلك العذاب نتحجم أمام الغياب، نتقزم كثيراً، نستسلم فلا جدوى من كل ذلك العناد والاعتراض.. يسكننا الصمت ونسكن في حزن طويل.. طويل جداً.. ننسى معه لماذا نحن هنا؟، ومن أين يبدأ العزاء فيهم، من تلك الأيام التي قضيناها ونحن نلتصق بهم دون أن نظن بأنهم قد يغادرون يوما؟، أم من الوجع الذي نشعره بدواخلنا لفقد مفاجئ جمع كل شيء معه ونسي الذاكرة المعلقة بهم؟..كيف نستعد لكل ذلك القدر من الفقد والوجع؟. شجاعة المواجهة يباغتنا الفقد مع من أحببناه يوماً.. نخسر كثيراًَ.. نشعر بذلك الغياب في كل شيئ حولنا، يأتي الفقد ليشوه الصورة الجميلة المعلقة بأذهاننا عن مفهوم التوحد للأرواح، نفقد وجوه أخرى سكنتنا.. عاشت بنا، تتمد بنا حتى تتشرب مفاصلنا وخرائط أرواحنا، تختلط بكيمياء القلب، ويتفاعل مع تأثيرها فيزياء الجسد، نرتبط بهم، ويظل هناك شيئا معهم لا يموت.. ونفقدهم، ونخسرهم، ويغادرون وهم قريبا منا يسكنون.. بكل ذلك القدر من الألم نفتقد ونحزن.. ولكننا لسنا -بعد- مستعدين للفقد والغياب.. كيف نستعد للفقد ونحن نرفضه بكل ماأوتينا من قوة ونصر على أن من سمحنا لهم بالدخول إلينا لا يمكن أن يخرجوا متى رغبوا.. وبأننا مازلنا أحياء ومازالوا أحياء.. فكيف نموت سوياً ونعيش طعم الفقد وهم قلوبهم مازالت تنبض بداخل نبض قلوبنا.. كيف نستعد لجشاعة كل ذلك الغياب؟. رفض الغياب نعيش لحظات الفقد والغياب.. ولكننا لسنا جاهزين له أبداً.. ولن نكون قطعاً فكل شيء في حياتنا يقودنا إلى التشبث بما يعبر حياتنا حتى إن كان ضئيلاً!؛ إننا نريد أن نتشبث بخلفيات الأشياء حتى إن لم تكن صادقة جداً ففي ذلك جزء من البقاء ومفهوم الاستمرار.. إننا نرفض أن نفتقد لأنه الوجه القبيح للبقاء.. المعنى الكوني الذي تعيش من أجله الكائنات جميعاً وتحارب من أجله.. إننا نرفض الفقد والغياب لأن في ذلك غيابا جوهريا إلى كل ما يمكن أن يكون كبر كثيراً حتى أصبح يدير بداخلنا حواسنا والفوضى التي تتسلل إلى المشاعر لتشعرنا بأن هناك أشياء من أجلها تستحق الأيام أن تعاش.. فكيف نستعد للفقد والغياب؟. كيف لنا أن نجعل لنا في خزائننا ثيابا للعزاء فيمن نفقدهم، من يرحلون ويتركون كل شيء خلفهم.. يرحلون بهدوء قاتل وكأن شيئا لم يحدث!، وكأن الأمكنة التي كانوا فيها لم تلون بهم.. بل وكأننا كنا سقط طقس من فصول السنة.. كيف لنا أن نكون جاهزين لتقبل فكرة غياب من نحبهم في الحياة..؟، كيف لنا أن نستعد حتى نقف على أقدامنا حينما يؤخذ منا شخص كنا نحبه كثيرا..؟، كيف نتعلم أن نستعد للغياب والفقد؟.. أين نتعلم كل ذلك من القسوة التي لايخلق منا بشرا بوزن الريشة تلعب بها الرياح حينما تقتلع الشجرة التي كانت تحيط بها؟،.. كيف لنا أن نستعد للغياب ونتقبل فكرة الفقد والخسارة في لحظة الفقد لمن نحبهم في الحياة.. بل كيف نتجاوز عن كل التسارع الرهيب الذي نشعر به يخفض بشدة وكأن قلبه سيقف بعد ثوان وعلينا أن نختصر كل ما نريد قوله في ثانية؟.. كيف لنا أن نستعد لشراسة ونبش لحظة الفقد.. ونحن مازلنا نحتاجهم جداً .. مازالنا صغاراً جداً مهما كبرت أجسادنا ونحتاج إلى التشبث بأيديهم؟.. كيف لنا أن نصدق بأنهم -يوماً- قد يرحلون وهم الذين قالوا ووعدوا بأنهم أبداً لن يتخلوا عنا؟.. كيف نستعد للغياب ونحن لا نعيش إلاّ بحضورهم؟، ثم كيف نتعلم أن نعتاد وهم كل العادات وكل الأفعال؟، كيف لنا أن نستعد للفقد والغياب.. ونصبح أقوياء .. ونحن مازلنا نشعر بهم في كل الأمكنة وعبر الحكايات والقصص التي نسمع بها في يومياتنا، مازالوا هنا في عطر الأشياء.. مازالوا هنا في القلب.. حتى إن غابوا .ولم نلتقهم أبداً؟. هل أنت مستعد للفقد؟.. كيف؟، ويصعب جداً أن يغيب من لا يغيّبه الموت من لا يغيبه الغياب نفسه والمسافة.. لأن الغياب والفقد الحقيقي هو أن ينتهي سحر من نحب بدواخلنا.. يتسرب كل ذلك الغيم ليتحول إلى تراب.. كيف يمكن أن نستعد لغياب من لا يغيب أبداً.. لأنه بالروح يعيش.