كانوا يتزاحمون ويتسابقون لركوب الحافلة التي تحوي عددا محدودا من المقاعد لا يكفي لكل المنتظرين، ولم تكن الفرصة لمن سبق، بل لمن غلب، وظلت المشكلة قائمة، والقوة حاكمة، والنفوس متأزمة، والناس تشتكي ولا مجيب، وجاء قائد أمني حكيم فنظر إلى المشكلة بعين البصيرة، فأرسل ثلةً من رجال الأمن عند محطة النقل، وأمرهم بأن ينظموا عملية الركوب وفقاً لقاعدة من سبق، وليس لمن غلب، وأن يلجموا زمام القوة بأقوى منها فاستتب النظام، وبدأ الناس يعتادون على أن معيار البكور وليس العضلات هو المهم في الحصول على مقعد في الحافلة، وبعد فترة اكتفى الأمن برجل واحد يحسم الأمر ويردع المعتدي بقوة النظام المحمية بقوة الأمن. ثم اعتاد الناس النظام، وأصبح المتأخر يعرف مكانه ولو كان قوياً، بل أصبح الناس يمنعون المتعدي على ترتيب غيره، وتعلم الناس من أنفسهم كيف يصنعون النظام، وكيف يطبقونه، وكيف يحمونه، وكيف يردعون من يخالفه. وعند تلك اللحظة لم تعد الحاجة حتى إلى رجل الأمن، واستطاع القائد الأمني الحكيم أن يصنع ثقافة في المجتمع تحترم النظام، وأن يجعل من المجتمع رجال أمن يسهمون في تطبيق النظام. إن مشكلة العالم الثالث الذي يعاني من تفشي الفوضى في كثيرٍ من مناشط المجتمع العامة، وسلوكياته اليومية، لا تكمن في فقر في الأنظمة والتشريعات والقوانين، وليست ناتجة عن جهل السلطة التشريعية والتنفيذية بالممارسات الفوضوية التي يمارسها كثيرٌ من أفراد المجتمع ومؤسساته، وليست بسبب فقدان للتقنية والتجهيزات الحديثة، إنها بكل بساطة مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى، نعم لن تستطيع تغيير المجتمع من الخارج إذا لم تبدأ من الداخل، يجب أن نوجد في مجتمعنا القناعة بالسلوك الحضاري، ونلزمه بممارسة هذا السلوك بقوة الدولة أولاً لكي يتعلم المجتمع النظام، فيصبح للنظام قوة نابعة من المجتمع. وللمقارنة فإن منحنى التطوير في المجتمع المثقف كاليابان وألمانيا كان سريع النمو متكامل العناصر يعتمد في سرعته وقوته على عنصر رئيس واحد وهو " ثقافة وانتماء ووعي المجتمع بالمسؤولية الوطنية الجماعية"، وبالتالي فسرعان ما نفضت هذه الدول غبار الانكسار العسكري والاقتصادي عنها متكئة على صلابة وقوة البناء الاجتماعي والمهني. ولعل مما يقلق المتابعين لحركة التطوير في المجتمعات العربية بشكل عام هو أن منحنى التطوير التصاعدي في العقد الماضي بدأ في العدّ التنازلي في هذا العقد حيث تزايدت الممارسات اللاحضارية، ونسبة البطالة، وارتفعت معدلات الجريمة، وقلت الإنتاجية العامة للمجتمع، وغلبت سمة العشوائية وتضاءلت سمة المهنية والاحترافية في صناعة القرار وفي تنفيذه، وارتفعت نسبة ما يسمى بالفساد الإداري، هذه المؤشرات السلبية وغيرها تنذر بأن المستقبل لا يحمل في طياته الكثير من بشائر التطوير والنمو المواكب للعالم المتقدم. إن عقم حلول بعض من أزماتنا الاقتصادية والإدارية والتعليمية يعود إلى بعض الممارسات السلبية المتجذرة في ثقافة المجتمع، ومنها على سبيل المثال: الواسطة، المحسوبية، التمظهر، العصبية القبلية، الأنانية الفردية والجماعية، ..الخ، وهذه الممارسات السلبية الثقافية لاشك تسهم في عرقلة مسيرة المجتمع، وتفرز آثاراً سلبية أخرى، وتكمن خطورة مثل هذه الممارسات السلبية عندما تصبح سمة إيجابية، ومثال ذلك عندما يخون مسؤول حكومي أمانته ويمنح الوظيفة لرجل لا يملك من مؤهلات الكفاءة سوى قرابته بالمسؤول، ثم يصف المجتمع المسؤول الساذج والخائن بأنه شهم ووفيّ يعين جماعته وقبيلته..!؟، مما يعكس ثقافة مجتمعية غير ناضجة مشابهة لذلك السلوك الطفولي الذي يرى العالم من منظار مصلحته الضيقة الخاصة، وإذا اهتم بقضايا مجتمعه فهذا في نظره عملٌ اختياريٌ طوعي ليس مطلوبا منه. إن التطوير الحقيقي يكمن في حماية القيم الفاضلة للمجتمع، والارتقاء بمهارات وقيم أفراده، وتعميم العمل بها بقوة النظام عند البدء في تطبيقها، وحين يعتادها المجتمع وتصبح جزءا من نسيجه فإنه سوف يتكفل بعد فترة من التطبيق برعايتها والحفاظ عليها، ويجب أن نعلم أن تقويم سلوك المجتمع يحتاج مع قوة القانون والنظام إلى برامج توعية وتثقيف، وفترة نضج ووعي وإدراك، كما أن استمرارية التوجيه والإرشاد والدعم سوف تضمن بتوفيق الله استمرارية نمو الوعي المجتمعي وارتقاء السلوك الجمعي، وشيوع القيم الثقافية الإيجابية، ولعل عثمان بن عفان رضي الله عنه عبر عن التكامل بين قوة النظام وبناء القيم بمقولته الشهيرة " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" وهو تكامل مطلوب فالسلطان هو القوة، والقرآن يشتمل على القيم والمبادئ والعقائد والسلوك.