في خضم أحداث مصر وفي صيحات الثأر مع صيحات التسامح التي تضيع وسط الضجيج.. مصر التي أحببناها كثيرا، نعم قد نتكدر من معاملة في الشارع أو حديث صاحب، سيارة أجرة أو ابتزاز صيرفي، كل ذلك قد يمر علينا لكنه يمثل وجها من مصر ولا يمثل وجوها جميلة عرفناها أو قرأنا عنها أو تتلمذنا على يدها.. مصر التي نحبها ونخشى عليها من مصير الجزائر، مصر تلوّح لنا بوجوهها الجميلة، وآثار عزتها وبنائها ومقدرات رجالاتها، في الأدب والثقافة كما الاقتصاد والجغرافيا.. لمصر وجوه جميلة وعظيمة وكبيرة، من سيدات ورجال أثروا الوطن العربي بما قدموه ويقدمونه. لإمكاناتها الثقافية سحر الحرف واللون واللحن، دار الأوبرا ومسارحها الملتزمة بالفن الراقي ومعاهدها.. لكل ذلك وجود بارز في حياتنا ككل مكان في وطننا العربي الكبير، فكل بلد أثر وتأثر في مختلف الأقطار العربية.. من شرق الوطن العربي لغربه.. لا نبخس لبنان ولا سورية حقهما، ولا العراق حضارة وادي الرافدين، ولا اليمن معقل اللغة العربية.. وما أنتج كل بلد وكيف تم هدم أشياء جميلة في داخلنا ونحن نراه يتمزق طولا وعرضا.. كل ذلك أثر فينا وبنا، نخشى على مصر أن تسير نحو المصير الذي كان .. أكتب عن شخصية جميلة بنت لمصر شيئاً في تراثها الثقافي الحديث، وأسست لحياة فنية وأدبية نقية.. بدأت منذ الستينيات .. تركت أثرا وتأثيرا ليس في حياة مصر الثقافية فقط، ولكن في حياتنا أيضا.. وزير الثقافة في عهد عبدالناصر ثروت عكاشة، أثرى الثقافة في وطنه، وضع الكثير من الأسس لبناء ثقافة جماهيرية كبيرة، معتمدا ذلك من خلال إقامة البنية التحتية للثقافة في كل نواحيها، صحافة وفنا وحفاظا على الموروث الحضاري العظيم لمصر.. معهد السينما أخرج أجيالا من صناع هذه المهنة بمختلف نواحيها؛ حيث اتى وقت على السينما المصرية هي سيدة دور العرض العربية، بما في ذلك دور العرض في شمال أفريقيا، وكم شاهدنا أفلاما تعرض بترجمة فرنسية.. نظم دار الأوبرا المصرية، وطورها فنا وبناءً، كما بذل جهدا لإيصال الثقافة والقراءة لمختلف القرى والنجوع في مصر عبر بيوت وقصور الثقافة الموزعة في طول البلاد وعرضها.. ولقد كان لاوركسترا القاهرة السمفوني دور كبير في تنمية تذوق الموسيقى العالمية ليس لدى المصريين انفسهم بل تلك الذائقة توسعت لدائرة العالم العربي والذي كانت مصر تعتبر نقطة إشعاع له.. لا ينسى المصريون أكاديمية الثقافة والفنون التي أنشئت حينئذ وقاعة سيد درويش.. كثيرة هي الصروح الثقافية التي انتشرت عبر مدن مصر الكبرى، كما في قراها.. ولا ننسى تأثرنا بمجلات الأطفال سمير وتهته، ومن ثم بطوط.. دارت الأيام وتوفي عبدالناصر، وفقد ثروت عكاشة وظيفته وقدرته على التحرك، إلا انه ثابر على الكتابة فأنتج كتبا تبدو كمصادر سلسلة تاريخ الفنون العالمية، حيث أصدر مجلدات متعددة عن الفن الهندي والفن الأوروبي في عهد النهضة، كذا الفن الفارسي، وقام بترجمة أمهات الكتب، ومنها كتاب برنارد شو، عن الموسيقار الألماني ريتشارد فاجر، كما لم ينس فن مصر القديمة فأنتج كتابه عن المسرح المصري قديما، حاول من خلاله إثبات أن المسرح بدأ في مصر قبل أن تعرفه أثينا.. أخيرا أشير إلى أن مصر كانت قد اتخذت قرارا لبناء السد العالي، ذاك السد له محاسن كثيرة لتوفير المياه من جهة وعدم ضياعها في البحر، ويمد مصر بالطاقة الكهربائية، ولكن من مساوئه هو غمره لأراضي النوبة والاضطرار لتهجيرهم، الدولة بنت لهم بيوتا وأسكنتهم، ولكن هناك آثار للمنطقة كبيرة وثمينة، ومصر وحدها لن تستطيع أن تنقذها. في مارس 1960 وقف ثروت عكاشة، أمام اليونسكو في باريس ليطلب منهم المساعدة في إنقاذ آثار النوبة وأقنعهم وتولى العالم نقل تلك الثروة من الآثار. وما ثروت عكاشة إلا واحد من آلاف المصريين الذين أثروا كثيرا، وكانت لهم بصماتهم في تاريخ مصر الثقافي.. والذي تثقفنا من خلاله.. خشينا كثيرا على ثروة مصر الثقافية من أن تهمل وتهمد وتندثر، خوفنا الآن أكثر أن تتمزق مصر التي كانت فنارا لنا.. وشمسنا تشرق منها..