لا بدّ من اختلاف وجهات النظر بين الباحثين والمؤرخين حول الشخصيات الشعبية التي يتم تناقل سيرتها في أكثر من قطر عربي، وقد يتم في هذا الاختلاف تحديد بعض وجهات النظر المتّفق عليها أيّاً كانت وهذا هو مطلب الجميع. قرأت في "الرياض" بالخزامى في العدد (16432) تعقيب الباحث الأستاذ طلال الرميضي على ماجاء في مقالة الزميل الأستاذ صلاح الزامل "الرميضي يكشف عن شخصية الحميدي بن منصور المثيرة للجدل" في العدد (16418) ومقالتي "الرميضي أخطأ في نسب الحميدي بن منصور" في العدد (16425) التي حوت على شرح عدد من النقاط المهمّة جداً التي قد أختلف معه في بعضها، وقد اتفق معه في الأخرى، وكان مما قاله الرميضي: "ومن خلال بحثي المتواضع رجّحت بأن شخصية الحميدي بن منصور شخصية أشبه بالاسطورة ومزجت عليه الكثير من القصص والأشعار، وسجّلت رأي الموسيقار الكويتي والباحث في التراث الغنائي الأستاذ غنّام الديكان بأنه توجد أكثر من شخصية للحميدي بن منصور وفي أكثر من بلد، وأرجح بأن الكثير من القصائد التي نسبت للحميدي ليست من نظمه" أ.ه .. فأحببت أن أسرد بعض الأقوال من خلال بحثه في هذه النقطة المثيرة للجدل. في كتاب "الحكيم الفلاح الحميد بن منصور- شخصيته وأقواله" الصادر عام 2010م يذكر الباحث د.علي صالح الخلاقي أن أقوال الحكيم الحميد بن منصور تتصف بالعراقة والحيوية لديمومة استمرارها، وأنها وقد أضحت جزءاً أصيلاً من التراث والموروث الشعبي اليمني الذي تتناقله الأجيال منذ زمن بعيد، وأنه ومنذ طفولته المبكرة في يافع (سَرْوْ حِمْيَرْ) وفي بيئة زراعية حيث الأرض هي المصدر الأساس للرزق ومجال العمل لغالبية السكان كان يستمتع بمواويل المزارعين وهم يرددون أقوال ابن منصور بألحان بديعة ومواويل عذبة أثناء قيامهم بحرث الأرض وتسويتها وتهيئتها وبذرها على "الضِّمْد" المؤلف من ثورين يجران المحراث (السحب)، وكان يردد تلك الأقوال بالفطرة دون معرفة كنهها أو إلمام بمعانيها ومضامينها وأبعادها، ولكثرة ما كانت تتردد أقواله في حياة الناس العملية وفي مجالسهم الخاصة كان يعتقد حينها أن هذا الحكيم أحد أعلام يافع المشاهير، ولا شك أن مثل هذا الاعتقاد قد انتاب كثيرين مثله من المناطق المختلفة التي تتردد فيها أقوال هذا الحكيم الزراعي على نطاق واسع، خاصة وأن كثيراً من تلك الأقوال قد جرى مجرى الأمثال في الموروث الشعبي اليمني. وتحت عنوان: "أسطورة أم حقيقة؟!" يذكر الخلاقي أن الكتابة عن الحكيم الشهير الحميد بن منصور ليس بالأمر السهل، إذ يصطدم الباحث بصعوبات ومشاق جمة لندرة الكتابات التي تناولت شخصيته وأقواله وحِكَمه. فلا نكاد نعرف على وجه التحديد متى عاش وفي أي منطقة، ولذلك يصعب التحقق التاريخي من الزمن الذي عاشه أو مسقط رأسه، وحتى أشعاره أو أقواله أو ما نسب إليه لا تعطي إجابات قاطعة عن ذلك، وهذا الغموض الذي يكتنف مولده ومسقط رأسه ونشأته، أدّى إلى ظهور خلاف حول حقيقة شخصيته وهل كان يمثل شخصية حقيقية أو أسطورية؟ فهناك من يضعه في صف (جُحا) و(أشعب) وغيرهما من الشخصيات التاريخية التي لم تُعرف مواطنها الأصلية، وكما نُسبت كل نادرة مضحكة في الغباء تارة وفي الدهاء والذكاء تارة أخرى إلى (جُحا)، وكل نادرة في البخل والجشع إلى (أشعب)، كذلك نسب إلى ابن منصور كل شعر في الحكمة والنصيحة والموعظة، وهناك من يرى أن ابن منصور أسطورة شاع ذكرها في أوساط المجتمع اليمني أجمع، بل نجد من ينكر وجود الحكماء أمثال ابن منصور وأبو عامر وعلي بن زايد وحزام الشّبلي وسعد السويني. يجزم الروائي والكاتب محمد الغربي عمران بأن تلك الأسماء لأناس لا وجود لهم! وحجته في ذلك أن معظم تلك الأشعار والأحكام يرددها الناس في مناطق أخرى على أنها من أقوال علي ولد زايد، وآخرون يرددونها على أنها من أقوال ابن منصور..إلى آخر تلك الأسماء، وأن المفردات هي المفردات في ما ينسب إلى كل الشعراء، إضافة إلى أن تلك الأقوال قد أتت في أبيات قليلة، فلماذا لا تكون تلك الأقوال للعديد من الناس، وقد أحب أو فضل من يتغنى بما يقول أن يسبقها باسم من تلك الأسماء التي لا يعرف لها مقر أو زمن. ويتفق الخلاقي مع عمران في استنتاجه بأن كثيراً من تلك الأقوال قد نحلها العديد من الناس في أزمنة وأمكنة مختلفة ونسبوها إلى الحميد وغيره من الحكماء، لكنه لا يرى مبرراً كافي فيما ذهب إليه من نفي جازم لوجود هؤلاء الحكماء بأنهم مجرد أسطورة أو مخلوقات وهمية، وأن الاتجاه الغالب والأقرب إلى الصواب هو ذلك الذي تلتقي فيه الكثير من الآراء ممن ترى في ابن منصور وابن زايد وأبو عامر شخصيات حقيقية، كما بيّن أثناء حديثه عن ابن منصور، فضلاً عن كون العرف العلمي والمنهجي المتطور في هذا المجال لم يعد يستبعد وجود شخصيات حقيقية مبدعة وراء كل عناصر التراث الشعبي في أي مجتمع. وفي دراسات الباحث والشاعر عبدالله البردوني (1929-1999م) – رحمه الله- المتفرقة يقر بحقيقة وجود علي بن زايد والحميد بن منصور ويصفهما بصوت تأمل الشعب والصورة الناطقة لتجاربه، ويرى أن التاريخ كان رسمياً ولم يهتم بهؤلاء الحكماء. أما د.عبدالعزيز المقالح فإنه يذكر في كتابه "شعر العامية في اليمن" أنه: "على الرغم مما يتردد من الشكوك حول شعراء الأحكام، وما يظهر من مواقف وتساؤلات إزاء الأسماء المعروفة لهم، وهل لهذه الأسماء وجود تاريخي أم أنها أسماء مخترعة يختفي خلفها عشرات من الشعراء المجهولين- أقول إنه على الرغم من ذلك فقد أصبح لهؤلاء الشعراء من الوجود في ذاكرة الشعب أكثر - ربما- مما لكثيرين من الشعراء الذين وجدوا حقيقة، وقد زاد من تأكيد هذا الوجود تقليدية المجتمع اليمني ومحافظته ورفضه للقصائد التي لا تنتمي إلى شاعر معروف إذ يكاد يعاملها معاملة الأطفال اللقطاء، فهي قصائد لا تستحق أن تبقى، لذلك فقد نسبها إلى شعراء وسماهم" أ.ه الدلائل تؤكد أن ابن منصور كان مزارعاً يمنياً ارتبط بالأرض وبحرثها وتقليب تربتها وزراعتها، وعاش حياته في منطقة ريفية زراعية في شرق اليمن، في زمن انعدم فيه التدوين لحياة بسطاء الناس أو لمناقبهم وأشعارهم، وقد أخذت أشعاره وأقواله تتنقل في حياته شفاهة بين الناس من منطقة إلى أخرى، فأقبل المزارعون على تلقف تلك الأقوال والأشعار لارتباطها الحميم بحياتهم ولما فيها من الحكم والنصائح والعبر التي لا غنى لهم عنها، فحفظوها وتناقلوها ورددوها في أثناء عملهم في حرث الأرض وزراعتها وفي حياتهم اليومية بشكل عام دون حاجة تستدعي منهم ضرورة التحقق من شخصية قائلها وأصله ونسبه، لأن ما يهم الفلاحين هي تلك الأقوال والحكم التي استأثرت على لبهم وعقولهم وعبرت عما يجيش في خواطرهم وصوَّرت أحاسيسهم ولامست مشاعرهم ونقلت تجاربهم في أقوال مسبوكة محكمة اللحن فحفظوها ورددوها. وبمرور الأيام وتعاقب السنين نسجوا على منوالها الكثير من الأقوال التي أبدعها مزارعون كثيرون وبلهجات مناطق مختلفة ونسبوها إلى ما تراكم وانتشر من أقوال ابن منصور، ومن هنا سِرُّ اختلاف صيغة الأقوال بين منطقة وأخرى كما يرى الخلاقي، بحيث نجد ابن منصور في لهجة الكثير من المناطق وكأن لكل منطقه حُمَيْدَهَا الخاص بها. فلا يعرف بالضبط مسقط رأس ابن منصور ولا الزمن الذي عاش فيه، ولا تسعفنا المصادر التاريخية في شيء. ولشهرته الواسعة وانتشار حِكَمِهِ وأقواله نجد أن أكثر من منطقة داخل اليمن، بل وحتى خارجها، تدعي أنها مسقط رأسه وموطنه الأصلي الذي عاش فيه وهناك شبه إجماع في الروايات الشعبية ومن قبل الباحثين على أن موطنه الأصلي ينحصر في مناطق المشرق. وعن شهرة ابن منصور الواسعة يقول الباحث الروسي م.رودينوف في كتابه "عادات وتقاليد حضرموت الغربية" بصفحة (196): "إن الحميد بن منصور أكثر شهرة في شمال اليمن من علي بن زايد في حضرموت، ولم يستطع أحد ممن تحدثوا إلينا أن يتلو من الذاكرة أشعار الأخير، ولم يكن حتى اسمه معروفاً للغالبية" أ.ه ومثل هذا الجهل باسم ابن زايد يشمل تقريباً كل المناطق الشرقية والجنوبية التي لا يعرف الناس فيها غير الحميد وأقواله، ولا يُعرف عن ابن زايد إلاَّ مما يُنشر عنه عبر وسائل الإعلام خلال العقود القليلة الماضية، وقد سأل الخلاقي نفسه العديد من كبار السن من مناطق يافع والبيضاء عما إذا كانوا قد سمعوا بعلي بن زايد أو يعرفون شيئاً من أقواله فكانت إجاباتهم بالنفي! وفي مجلة "الثقافة الجديدة" العدد(6) يونيو/يوليو1981م تحت عنوان "أغاني الفلاحين في محافظة لحج- المرتفعات الجبلية" كتب الباحث محسن أحمد لصور:" أن الأغاني الخاصة بالحراثة عادة ما تكون أبياتها الشعرية على لسان الحكيم اليماني الحميد بن منصور وهو الشخصية الفلاحية المشهورة في هذه المنطقة وليس علي بن زايد كما يقال" أ.ه ورغم أن ابن منصور أكثر شهرة وتتردد أقواله وما ينسب إليه في مناطق أكثر من تلك التي تنتشر فيها أقوال ابن زايد، إلاَّ أنه لم ينل ما يستحقه من دراسة أو اهتمام، ولم يبادر أحد من قبل الخلاقي إلى جمع أقواله في كتاب. تستهل أقوال ابن منصور جميعها دون استثناء بلازمة ضرورية تمثل الشطر الأول من البيت المنفرد هي "قال الحميد بن منصور" ثم يأتي ببقية القول أو الأقوال، وقد تتألف من بيتين أو ثلاثة أو أقل أو أكثر، وكأنه بمثل هذا الاستهلال يوثق لأقواله ويسهل لمن يحفظها أو يتناقلها معرفة صاحبها مهما تقادم الزمن، وهي طريقة متبعة من لدن الكثير من الشعراء الحمينيين مثل: يحيى عمر قال: قف يازين سالك بمن كحّل أعيانك وكذلك النبطيون، ومثال ذلك: يقول الفتى شكر الشريف بن هاشم شوف الديار الخاليات يروع