ثمة مفارقة سلوكية يعيشها الإنسان فرداً وجماعة، ألا وهي البحث عن مسؤولية الآخرين حول الظواهر السلبية أو الأحداث السيئة التي تجري في مجتمعهم أو أمتهم أو العالم، مع تغييب تام لمسؤولية الذات وخياراتها المختلفة.. فكل السيئات والسلبيات التي تجري في محيطنا الاجتماعي وفق هذه العقلية والنزعة لدى الإنسان، هي من الآخرين، سواء كان جاراً أو زميلاً في وظيفة، أو شريكاً في شركة أو مؤسسة تجارية.. فأنظار الإنسان تتجه ابتداء في تحميل غيره مسؤولية ما يجري، وهو الإنسان البريء من كل ما يجري.. هذه المفارقة التي يعيشها الإنسان، هي السائدة في أغلب دوائر الحياة، سواء كانت الحياة دينية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية.. فدائماً الطرف الآخر هو المسؤول عن الفشل والإخفاقات، وأنه بعقله الوقاد وعبقريته الحادة، حاول أن يصلح الأوضاع، ولكن غباء الآخرين أو إصرارهم على الخطأ، هو الذي أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.. ما يجري من أحداث ومشاكل، ليس من صنيعة طرف واحد في الأمة، وإنما هو من صناعة الجميع.. والبحث الدائم عن تبرئة الذات وتحميل المسؤولية للآخرين، لا ينسجم والمنهج القرآني في التعامل مع الأزمات والمشاكل، كما أنه ليس واقعياً من الناحية الفعلية.. لأن الراهن بكل سيئاته وأزماته، هو نتاج خيارات وممارسات الجميع.. وآن الأوان بالنسبة لنا جميعاً لنبذ النزعة النرجسية، التي تتعامل مع ذاتها، بوصفها هي المعصومة عن الخطأ، وكل الأخطاء هي من صنيعة الآخرين. وهذه المفارقة السلوكية، لا تكتفي بذلك، حيث تنسب الفشل والإخفاق إلى الآخرين، دون تحميل الذات أية مسؤولية، وإنما هي أيضا إضافة إلى ذلك، تنسب كل المكاسب والنجاحات والعناصر المضيئة في التجربة إلى ذاتها ودورها المحوري في عملية الإنجاز.. فلولاه لما نجح المشروع التجاري والاقتصادي، ولولا وعيه السياسي الوقاد لابتليت الأمة بإخفاقات سياسية كبرى، ولولا جهوده وتفانيه لما حافظ مجتمعه على تضامنه ووحدته.. فهو بطل كل المراحل، وهو المنقذ من كل الإخفاقات، وهو الناجح بامتياز دوما، ونصيب الآخرين دائما هو الإخفاق والفشل.. فهذه المفارقة السلوكية التي تعبر عن ذاتها بأكثر من طريقة، وتستند دائما على هذه القناعة المركزية، أن الذات بريئة وغير مسؤولة عن أي فشل وإخفاق، وإن النجاح والتميز، يعود إلى جهوده وتفانيه في العمل وصوابية خياراته دائما.. وهذه المفارقة السلوكية التي تنطبق على عالم الأفراد، هي ذاتها يعاني منها عالم الجماعات.. فالجماعة البشرية التي أنتمي إليها سواء كانت ديناً أو مذهباً أو قومية أو أي منظومة أخرى، هي دائماً على صواب، وهي المحامية الوحيدة عن الثوابت والمقدسات، ولولا وعيها وإدراكها لعمق الأمور، لدخل المجتمع ومن ورائه الأمة في أتون الأخطاء المتكررة.. فالذي يثير الفتن في المجتمع، هي الأطراف الأخرى، ودور جماعتي التاريخي هو محاربة هذه الفتن وإفشالها.. فجماعتي الدينية أو المذهبية أو القومية هي الوحدوية باستمرار وغيرها هي صانعة التجزئة والتفتت والتشظي.. وجماعتي هي الواعية إلى مخططات الأعداء والقادرة على إفشالها، بينما الجماعات الأخرى هي بطريقة أو بأخرى شريكة في مؤامرات الأعداء.. وهكذا تبقى القناعة المركزية أن الذات سواء كانت فردية أو جماعية هي الوجه البطولي والمشرق في كل شيء.. أما الآخر سواء كان فرداً أو جماعة هو سبب الإخفاقات والابتلاءات التي نعانيها على أكثر من صعيد.. ولو تأملنا في الواقع العربي – الإسلامي المعاصر، لوجدنا هذه المفارقة السلوكية، متحكمة وسائدة في نظرة كل الجماعات العربية والإسلامية تجاه بعضها البعض.. فإذا كنت مسلماً، فكل الابتلاءات والمشاكل والانحرافات، هي من الآخر المسيحي أو اليهودي، واستدعي في سبيل تبرئة ذاتي الدينية الكثير من النصوص التأسيسية والأحداث التاريخية الكبرى.. ولو تحدثنا على مستوى الدائرة المذهبية سنجد ذات اللغة وذات الخطاب.. فالسني يحمل مسؤولية كل ما يجري من أحداث وفتن الشيعي، والشيعي بدوره يحمل كل ما يجري السني، مع استدعاء متبادل للتاريخ ورواياته المتعددة.. ولو تحدثنا وفق الدائرة القومية، فسنجد ذات اللغة وذات الخطاب.. فالعربي هو صانع الحضارة عبر التاريخ، وهو بريء من كل الإخفاقات، وغيره أي غير العربي هو المسؤول وحده عن ما يجير من إخفاقات ومشاكل على كل أصعدة الحياة.. فالجميع يبرئ ذاته، ويتهم غيره.. فهو ليس شريكاً في الإخفاق التاريخي، لأنه من صنيعة غيره.. ولولا حرصه ووعيه لأضحى هذا الإخفاق شاملاً ومديداً.. فالكل يلوم الآخر ولا يلوم ذاته، الكل يتهم غيره، ولا يبحث في دوره ومسؤوليته.. وأمام هذه المفارقة السلوكية التي تنخر كل جوانب حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية، تتفاقم المشكلات والأزمات، دون قدرة فعلية على معالجتها بشكل سليم.. وذلك يعود بفعل متواليات هذه المفارقة، التي تبرئ الذات بالمطلق، وتحمل الآخر مسؤولية كل ما يجري.. لذلك فإننا نعتقد أن البداية الحقيقية لمعالجة الكثير من المشكلات التي يعاني منها الواقع العربي – الإسلامي، هو إنهاء هذه المفارقة ومعالجة هذه النرجسية الطاغية في التعامل مع الذات.. وفي سياق العمل على معالجة هذه المفارقة التي تخترق كل جوانب حياتنا نؤكد على النقاط التالية : 1-إزاء كل هزيمة وفتنة ومصيبة مهما كان شكلها ومجالها، ينبغي أن نبحث عن دورنا نحن في صناعة هذه الهزيمة أو الفتنة أو المصيبة، قبل أن نبحث عن دور الآخرين في صناعة ذلك.. لذلك نجد القرآن الكريم يؤكد على حقيقة وضرورة البحث عن مسؤولية الذات، دون الهروب بتحميل الآخرين مسؤولية كل ما يجري إذ يقول تبارك وتعالى (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) (آل عمران، 165).. فما يجري من أحداث ومشاكل، ليس من صنيعة طرف واحد في الأمة، وإنما هو من صناعة الجميع.. والبحث الدائم عن تبرئة الذات وتحميل المسؤولية للآخرين، لا ينسجم والمنهج القرآني في التعامل مع الأزمات والمشاكل، كما أنه ليس واقعياً من الناحية الفعلية.. لأن الراهن بكل سيئاته وأزماته، هو نتاج خيارات وممارسات الجميع.. وآن الأوان بالنسبة لنا جميعاً لنبذ النزعة النرجسية، التي تتعامل مع ذاتها، بوصفها هي المعصومة عن الخطأ، وكل الأخطاء هي من صنيعة الآخرين.. إن ثقافة الاستثناء في النظر في المشاكل والأزمات، هو بنحو من الأنحاء شكل من أشكال تزييف الوعي.. لذلك تعالوا جميعاً من مختلف مواقعنا ودوائر انتمائنا، نبحث عن حلول لهذه المشكلات، لأنها من صنعنا جميعا، ولا أستثني في هذا السياق أي طرف من الأطراف.. 2-ضرورة الموازنة بين نقد الذات ونقد الآخرين، لأن الاستمرار في نهج تبرئة الذات ونقد الآخرين وتحميلهم مسؤولية كل شيء، هو يبعدنا عن المعالجة السليمة لكل أزماتنا ومشاكلنا.. فنحن جميعا ككيانات اجتماعية وقعنا في الخطأ، ومارسنا ممارسات خاطئة، وتبنينا خيارات ليست صائبة، ولا معالجة لواقعنا إلا بموازنة عملية بين نقد الذات ونقد الآخر.. لأن الانشغال المطلق في نقد الذات يقود إلى جلدها، مما يفضي إلى الانكفاء وتقلص منسوب الثقة بها وبقدراتها المتعددة، والانشغال المطلق بنقد الآخرين، يساهم في تضييع البوصلة وقراءة مبتسرة ومنقوصة.. من هنا فإننا نرى أن الخطوة الأولى في مشروع مواجهة المشاكل والتوترات، التي يعاني منها الواقع العربي – الإسلامي، هي اننا جميعا ينبغي أن نؤمن بأننا نتحمل مسؤولية ما يجري، بدون استثناء لأي طرف.. وكل من يدعي أنه أفضل من غيره سواء كان فرداً أو جماعة، فإنه يعلن في حقيقة الأمر عن سقوطه الأخلاقي والقيمي.. لأن النظرة النرجسية إلى الذات، تقود دائما إلى الهاوية بالمعنى الأخلاقي والقيمي.