انتقاد رجال السياسة أمر شائع في القديم والحديث، وفي كل زمان ومكان، في المجالس والمحافل وأخيراً في الفضاء الذي امتلأ بالأصوات والانتقادات عبر الشبكة العنكبوتية العالمية وعبر الفضائيات التي ما لها عدد. ولا يراجع أي ناقد للساسة - وفي مجالات لا يعرفها ولا يدرك غورها - نفسه ويعرف قدره، بل هو لا يفكر في انتقاد نفسه وسياستها السياسة الحسنة، فهذا يحتاج إلى جهد وإرادة وتضحية وصبر، أما مجرد انتقاد الآخرين فهو سهل عبارة عن كلام عام يطلقه أصحابه بكل سهولة كأنما هم يعبثون. سياسة النفس من أهم الأمور في الدنيا والدين، ومن الأوليات في تحقيق السعادة والنجاح، بل من البديهيات في تسيير أمور الإنسان بشكل مقبول مقول. على الأقل.. أما الصرامة في سياسة النفس وفق مبادئ ثابتة وأهداف واضحة وإرادة صلبة فإنه يحقق لصاحبه احترام ذاته، وبلوغ غاياته، والإحساس بأنه إنسان مكلف مسؤول، وأن عشق معالي الأمور ليس مجرد تمني بل هو عمل وعرق وصبر وجهاد.. وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاد النفس بالجهاد الأكبر. على أن سياسة النفس تقتضي معرفة القدرات دون إفراط ولا تفريط، وتحديد الأهداف من دون جنوح أو هبوط، مع معرفة أن النفس أمارة بالسوء، وأنها تميل إلى الدعة والشهوات وتكره المصاعب والتحديات ما لم يتم سياستها وترويضها بالتدريج، مع معرفة بطبيعة الحياة المملوءة بالتحدي، وطبيعة البشر القائمة على المنافسة الشريفة وغير الشريفة.. وعلى الطمح والحسد. وفي سياسة النفس يقول شاعرنا الشعبي الكبير (راشد الخلاوي): (ولي من قديم العمر نفس عزيزه أعضّ على عصيانها بالنواجذ قد أوزمتها ما كان خوفٍ إلى بقا عليّ من ايام الردى تعاود ويا طول ما وسدت راسي كتاده من خوفتي يعتاد لين الوسايد فمن عوّد العين الرقاد تعوَّدت ومن عوّد العين المساري تعاود ومن عوّد القوم المناعير مطمع تلوه بالانضا والجياد العتايد ومن عوّد الصبيان أكل بيته عادوه في عسر الليالي الشدايد ومن عود الصبيان ضربٍ بالقنا نخوه يوم الكون: يا ابا العوايد! ومن كثّر الطلعات للصيد ربما يوافيه غرّات يجي منه صايد ومن تابع المشراق والكنّ والرا يموت ما حاشت يديه الفوايد ويقول الشاعر الفصيح: (وما طلب المعيشة بالتمنِّي ولكن ألق دلوك في الدِّلاء تجيء بمثلها طوراً، وطوراً تجيء بحمأة وقليل ماء ولا تقعد على أمل التمنِّي تحيل على المقدّر والقضاء والنفس هي مجموعة من الأهواء والرغبات والشهوات ولكن العقل هو الذي يسوسها ويصدقها النصح ويأطرها على الحق إذا خاصمته وصارعته.. يقول البحتري: أخيًّ متى خاصمت نفسك فاحتشد لها، ومتى حدّثت نفسك فاصدق وتعاليم الدين وأصول الأخلاق هي المقياس الذي يقيس به العاقل تصرفاته ويزن به مطالب نفسه فيجاهدها نحو الأفضل، ولكن بالمحبة والرفق لا بكره النفس فإن هذا يجلب الاكتئاب والإخفاق. ولأبي ذؤيب الهذلي: (والنفس طامعة إذا طمعتها وإذا تُردُّ إلى قليل تقنع) وهنا ينبغي التفريق بين الطمع والطموح، وبين القناعة المحمودة - وهي التي تأتي بعد بذل كامل الجهد - وبين قناعة العجز والخمول والكسل.. ويرى مهيار الديلمي أن القدرة على التحكم بالنفس يكمن في نبذ الطمع: (ملكتُ نفسي مُذ هجرت طمعي اليأس حرَّ والرجاء عبدُ) ومن أمثالنا الشعبية (إلى جاك باب طمع فسده بباب يأس).. نشير هنا إلى أن الطمع يختلف عن الطموح الجميل المدروس.. الطمع أعمى والطموح مبصر.. الطمع يريد ما لا يستطيع صاحبه وربما ما لا يستحقه فإذا أطاع نفسه وانساق لطمعه وقع في شر عمله وفقد ما لديه أصلاً (فمال البخيل يأكله العيار) على رأي المثل، والسبب أن العيار - وهو المحتال - يثير غريزة الطمع في البخيل فيندفع معه ويصدّقه! وللشريف الرضي سياسة خاصة مع النفس بحيث يسير أمورها (بين بين).. قال: (قِف موقف الشك لا يأس ولا طمع وغالط العيش لا صبر ولا جزعُ وخادع القلب لا يود الغليل به إن كان قلب عن الماضين ينخدع وكاذب النفس يمتد الرجاء لها إنَّ الرجاء بصدق النفس ينقطع) ولا يوجد في سياسة النفس أجمل من ذلك الأثر (إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).