سأجد من يرى معي أن كثرة الظهور العلني فى المنابر والمقابلات والأمسيات مدعاة إلى تجاوز الحقائق والنزوع إلى المبالغة في القول، أو حتى البعد عن الدقة، وقد يأتي الكذب متسلسلاً ما دام الملقي يرى المتلقي شاخصاً بصره "يُفوّت" كل ما يسمع. وأرى في الآونة الأخيرة أن المُلقي، إلى جانب استخفافه بعقول المتلقين يترك قواعد اللغة وأُصول الخطابة وأبجديات الحديث و"يأخذ راحته" ويأتي بغريب القول. يقولون إنك كي تسلم من انتقاد فقهاء اللغة - إذا كنت متيّماً بإلقاء الخطب - فإن الأسلم لك أن تسكّن الكلمات والأفعال، لأن المرء مع الحماس سيأتي على مفردات لا يعلم هل هي مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة بحرف جر أو إضافة أو أنها خبر لمبتدأ محذوف..! وقرأت مرة مقالة عن علاج لمثل هذه الأشياء ولكن ليس لإرضاء النحوي بل لإرضاء الرقيب الإعلامي - السياسي - الأمني في الوطن العربي. العلاج - كما يقترح ذلك الكاتب المجرب حتماً - هو "التعميم" كأن تقول مثلاً: "لدينا نحن شعوب العالم الثالث قدرة خارقة على الاستدارة في مساحة ضيقة جدا لسرقة المال العام". ولا تخف بعد هذا فشعوب العالم الثالث كثيرة جداً وليس من عاداتهم أن "يشدوا الرحال" كي يبحثوا عمّن قال تلك الجملة. لذا فالكاتب في مأمن..!! عبارة سكّن تسلم قالها سعد زغلول، ولا أحد ينازعه في قدرته اللغوية، والنزاع حول النحو أقل حدة من إحضار الكاتب أو الخطيب.. وسؤاله عن المقصود بهذه العبارة أو تلك، أو محاولة إيجاد القرائن الكافية للتحفظ عليه. والنجاة ليست دائما مضمونة حتى لو اعتمدت "التعميم من أجل السلامة". وسبقت بعض الصحف التي تصدر في الخارج الصحافة المحلية بأن أتت بعبارة "منطقة الخليج" مع أن السياق يقصد بلداً بعينه، وهي جملة جديدة وحيلة بارعة كي ينفذ الكاتب بجلده.