عندما تنهي قراءة رواية (قواعد العشق الأربعون) للروائية التركية إليف شفق، فلابد أن تصيبك الدهشة وتستغرقك حالة من التأمل عن الكيفية التي حملت فيها المؤلفة هذه العوالم الباذخة المتعددة المخترقة للزمان والمكان بين أصابعها، ومن ثم أشعلتها على امتداد صفحات الرواية الضخمة التي تجعلنا ننزلق فوق صفحاتها بشغف لايمل؟ الروائية (شفق) هي أحدى أهم الروائيات التركيات المعاصرات وأكثرهن في عدد القراء، ترجمت أعمالها إلى ما يقارب الثلاثين لغة، وكتبت ثماني روايات ما بين الإنجليزية والتركية، وبسبب روايتها (شحاذ أسطنبول) التي تتناول مأساة الأرمن في تركيا تعرضت لحكم بالسجن لكن لم ينفذ! (ويبدو أن لكل شعب محرماته وأسلاكه المكهربة ومجزرة الأرمن هي التابو الأول لدى المؤسسة العسكرية في تركيا). ونعود لروايتها (قواعد العشق الأربعون) التي وزع منها ما يقارب المليون نسخة ولاقت رواجا كبيرا، وهي رواية تعرض في جانب منها التجربة الروحية الكبرى لجلال الدين الرومي الشاعر الصوفي الذي خلف إرثا غنيا في هذا المجال . والرواية عبر تكنيك سردي مرن يقوم على التقافز جيئة وذهابا بين الزمان والمكان ترصد حالة الشغف والتوق البشري الأزلي نحو المطلق، والتراتبية المتصعدة التي تقوم عليها فلسفة جلال الدين الرومي لاسيما من خلال علاقته مع رفيقه الروحي الدرويش (شمس التبريزي) في مرحلة تاريخية مظلمة.. إذ كان القرن الثالث عشر الميلادي مفعماً بالصراعات الدينية، والنزاعات السياسية والاقتتال على السلطة في منطقة الأناضول؛ حيث في غربه احتل الصليبيون القسطنطينية وعاثوا فيها فساداً وهم في طريقهم لاحتلال القدس، وقسمت الامبراطورية البيزنطية. وفي الشرق انتشرت جيوش المغول، وفي الوسط كانت القبائل التركية المختلفة تتحارب فيما بينها. هذا الزخم التاريخي والأحداث المتصعدة كان لها انعكاساتها على طبيعة المرحلة في الأناضول التركي، فوظفته الكاتبة كخلفية للأحداث وحبكة الصراع ولتدافع الشخصيات التي استطاعت أن تنحتها وتستحضرها في النص السردي بمهارة وحرفية تشد القارئ جاعلة من فلسفة التعايش والتسامح هي التوق المطلق للأبطال والخيط الذي يحرك الأحداث. وعبر طبقات متعددة للسرد الذي يتعدد فيه الرواة ما بين مخطوطة رواية حول حياة جلال الدين الرومي في مدينة (قونية) وكاتبها الروائي الاسكتلندي، وبين ناشرة أمريكية تقرأ مخطوطة الرواية ثم ما تلبث أن تحدث تغيرات جذرية في حياتها عبر مفارقات ومصادفات تتماهى مع أحداث الرواية بشكل يجعل القارئ يستشعر القيم الفنية للأدب وأثره على البشر وتحديدا الأدب الخالد الذي لا تفنى فتنته، ولا تغادره قيمه الجمالية على مر العصور. ولعل الظروف الحياتية التي مرت بها المؤلفة من حيث كونها ابنة لدبلوماسية تركية أتاحت لها تجربة شمولية بانورامية في قيم التعايش بين الشعوب والحضارات، إضافة إلى احتفائها بثراء إرثها الوطني من خلال شخصية جلال الدين الرومي الذي يعتبر معلما جماليا للقارئ العالمي، حيث تعتبر صوفيات الرومي من أكثر الأشعار شعبية في الولاياتالمتحدة. استلهمت الروائية إرث (الرومي) ونسجتها داخل الرواية البديعة على شكل أربعين قانونا للعشق والحب الكوني، فظهرت الرواية على شكل قطعة فنية آخاذة ونادرة..