في أوطاننا، لا يستقر الخوف هاجساً قصياً في طي المجهول، ولا يبقى مغيباً في عالم الممكنات، بل حاضراً وبارزاً في عالمنا عالم الواقع والكائنات، فهو يبقى دائماً متربصاً على دروبنا عبر رحلة الحياة، رفيقنا الأكثر التصاقاً ومرابطة، يقطر مركبة العمر عبر المحطات التي مررنا بها جيلاً في أعقاب جيل، يتزود منها ويتورم رصيده، ليندس في ثنايا العقل والوجدان، فيصبح إيقاعاً للحياة وقانوناً للتفكير والسلوك. عالمنا مدرسة كبرى لتكريس الخوف، وتأسيس العقل والعاطفة بالحروف الثلاثة المرسومة أو المحفورة في الأحداق وبين الضلوع. خ. و. ف، تؤسس لقواعد الممارسة وطرق التفكير وألوان العواطف، فبين تأنيب الأم وصفعة الأب وعصا المدرس ورجال السلطة الراصدين للأنفاس، يزدحم عالمنا بحشود هائلة، من ملقني الخوف القائمين على حراسته وتعميمه منبثين فوق الأرض وتحتها وفي شقوق المنزل وزوايا الأزقة المظلمة، وبين القطط والأفاعي وثغاء الجمال تحمل الريح أصداءه في سكون الليل. لا يملك الخائفون إلا أن يمتهنوا الهروب إلى لا شيء، وأمة من المذعورين الفارين تبعثر أشياء العالم حولها وتتعثر بها، فإذا كانت أمة يترصدها الطامعون فإنها تنكفئ في حفائرهم، فالطرائد المذعورة أسهل انقياداً إلى فخاخ صائديها أو أنيابهم، فلقد استهل العرب «يقظتهم» وعلى أكتافهم أحمال قاصمة من الخوف الفردي والجماعي، فكانت الذاكرة الجمعية للعرب مثقلة بأصداء الصراعات الدموية والحروب والمذابح، لغزوات كاسحة تجاوزت أهدافها السيطرة عليهم أو انتهابهم إلى اجتثاث وجودهم الحضاري واطفاء الشعلة التي أوقدوها ومحوا هويتهم القومية. فلقد ولدت الحضارة العربية الإسلامية في قلب العالم وبمحاذاة الامبراطوريات القديمة، التي لم تكد تستفيق من صدمتها ببزوغ الإسلام حتى فوجئت بالزحف الإسلامي على أطرافها، ومع ان الحروب والصراعات كانت قد انهكتها إلا ان «الشعوبيين» من أبنائها عملوا بتصميم متوارث لتقويض البنية الثقافية العربية الإسلامية من داخلها، وأسهموا في دفع الروح الانفتاحية وطاقة التمثل التي تمتعت بها إزاء منجزات الثقافات الأخرى، إلى الانكماش والتقوقع، وإذا كانت توجسات الصفوة القيادية والثقافية قد تعززت آنذاك حيال الأجنبي - الآخر فإنها لم تجد عناء في العثور على متكئها الصلب في تشكيلة التطير والفزع الفردي والجماعي المؤسسة على واقع التأنيب والزجر والسوط. تسارعت خطى الانسحاب إلى الداخل وتصاعدت وتائر الانكماش والتقلص طرداً مع تزايد الاقتحامات على صعيد الفكر والواقع، ومع تواتر الشواهد القاطعة على تلاشي الحيوية الحضارية للمشروع العربي والإسلامي وتراكم مظاهر الاسترخاء والترهل على حوامله الإنسانية والفكرية، وبعد أن ظهرت بوادر نكوصه وتراجعه، اختارت القوى الفكرية أن تطوي كل الملفات المفتوحة وتغلق ادراجها باقفال ثقيلة، لم يكن ثمة مناص عن ذلك، فالمهمة الكبرى التي كانت تلهب عزائمهم وأفكارهم كانت صيانة الجوهر الحقيقي الذي أشرق بالنور ليخرجهم من الظلمات، كانت دوامة من الفزع والغضب تغيب الأمة، وكان الغيورون يرتجفون أمام الانهيار الشامل، فسحبت كل الملفات من التداول، وتوارى العقل عن الساحات التي خاض غمارها وتخلى عن فتوحاته دون أن تكتمل، ولم يعد أمام غراسه إلا أن تبذل وتستسلم لطغيان الشوك، وفي ميادين الأدب والعلم والفلسفة وحتى الشعر، اقفرت المنابر من روادها وضمرت المجلدات على رفوفها، فساد اللامعقول محتلا كل الميادين التي صال العقل فيها وجال، وبقيت المجلدات وحدها شاهدا على العقول الكبيرة لأسلافنا، الذين عانقوا زمنهم واخصبوه، لم يحاول أحد أن يعيد قراءتها تحت أضواء زمنه الخاص، يقابلهم على سجل التاريخ معاصرون من أخلافهم الذين لم يلامسوا عالمهم مكتفين بالتسكع في الهوامش المهملة لعصر خارق التسارع. كان مد الانهيار عاتياً تتابعت موجاته عبر قرون لتقذف بالعرب والمسلمين إلى موقعهم في عالم اليوم، فالخوف الذي عصف بالضمير المسلم حيال المضمون الجوهري لكيانه الروحي والأخلاقي، دحر طاقاته الإبداعية وأصاب بالشلل كفاءته الخلاقة التي صنعت أزهى حقب تاريخه، وإذا كان معاصرو بدايات مرحلة التراجع الطويلة قد نجحوا في صيانة الجوهري والصميمي، فإن مرحلتهم الحاسمة أورثت أجيال العصور الحديثة من العرب والمسلمين قلوبا واجفة تنبض على ايقاع الخوف الممزوج بالخرافة، حيث تلتقي الخرافة بالخوف في التربة البوار بعد أن كف العقل عن سقايتها. وبعد أن يصل الهروب الانكفائي إلى نقطة الصفر يصبح الخيار محصوراً في وجه الهاربين على محورين لا ثالث لهم، الانقضاء أو مواصلة الهروب. أجيالنا المعاصرة ومنذ البواكير الأولى للصدمة الغربية تواصل عملية الهروب، تطلق سيقانها الواهنة للريح، تتعثر وتبعثر الأشياء من حولها وتنكفئ في الكمائن، فمن كمين «العمامة» النابليونية الشهيرة في نهاية القرن الثامن عشر إلى «غزوة» الكويت الصدامية المشؤومة في نهاية القرن العشرين، وحتى يوم الموت الأسود في نيويورك، التي مهر مرتكبوها تفويضاً باستباحة خمس البشرية المسلم وحجزه موبوءا عن العالم والتاريخ، يبقى القرن الواحد والعشرون فاتحاً سجلاته لتدوين قصة الهروب التي لا يعلم نهايتها إلا الله. أجيالنا أدمنت الهروب لأن الخوف يستوطن انسانيتها، ولأن التطير يلقي بها إلى عالم متخيل تستغرقه الهواجس، فيهربون في كل اتجاه، يهربون عن مواجهة أنفسهم، لأنهم يخافون ان تصدمهم الحقيقة، يخشون ان تنفتح بصيرتهم على الطبقات المتراكمة، عن المركب بالغ التعقيد في نسيجهم النفسي، مزيج الدخائل التي تأسست عبر المراحل والتقلبات الحادة التي شهدها تاريخهم، تاريخ الغزو والاطماع والتآمر الذي يتجسد حتى اليوم في مظاهر ماثلة، عجزهم الفاضح عن الاعتراف بنواقصهم، انتزاعها من عمق الزوايا المظلمة حيث تستقر هناك آمنة، إلى مشارط الوعي تشرحها وتبحث عن الحقائق التي انبتتها وقامت على رعايتها، لا يفعلون ذلك ولا يجرؤون لأنهم لم يقرأوا اليقينية القاطعة لمضامين الرسالة التي حملها أجدادهم حول اصلاح النفس، مواجهتها ومغالبتها، حتى أمست هذه المغالبة جهاداً أكبر. لم يفعلوا ذلك فقد شلهم الخوف وهم يهربون ويبعثرون أشياءهم وأشياء الآخرين، يتعثرون بها ويتساقطون فوق بعضهم البعض، في الكمائن المنصوبة لاصطيادهم، انهم ينتحرون لأن الخوف يكتسح وعيهم، فيفجرون ما حولهم ويطلقون حمم الخوف على غيرهم لا لشيء إلا لكي ينعموا بالخلاص الأبدي من خوفهم في راحة الموت. ولكن وأياً كانت كثافة الخوف فإن الهروب من الداخل هو هروب زائف لأن دواخلنا تسبقنا على طريق الهروب، تقبض علينا وتسيج وجودنا في حظيرتها، فنتمرد ونتقافز مثل سمكة اخرجتها شبكة الصياد، تظل تلبط دون أن تنفلت، لأن انفلاتها لن يتم إلا عبر الثقوب الصغيرة في نسيج الشباك، تماماً كما هو حالنا، طريق الخلاص لن يكون زعيقاً أو غضباً ينتشي برائحة الدم وغبار الخراب ولكنه طريق الرجوع عبر الالتواءات والانحرافات التي حفرها سجل تجربتنا الحضارية الخاصة، حيث يمكن وقتها أن نلتقي وجهاً لوجه مع الأشباح المختبئة، نصرخ في وجهها ونطاردها لكي يصبح الطريق إلى النور سالكاً، لن تنفلت أمتنا من شراك الخوف دون أن تواجه الخوف وتصارعه وتطرحه أرضاَ وتمضي بعيداً عنه، تنزع شوائبه عن حضن الأم وصدر الأب، تهشم عصا المعلم وتنزع السوط عن رجال السلطة وتنفض الغبار عن رفوف المجلدات، تعيد إلى المنابر رجال العلم والشعر وصناع الأدب، فيرجع للجوهري مضاؤه كما صانه أسلافنا العظام ليستقيم به العقل وتسمو العواطف.