حدث أنني كنت في مدينة يورك على بعد ساعتين إلى الشمال الشرقي من لندن عندما هوجم إنسان وقطعت أوصاله بالسواطير في الشارع. وكان الحدث سيبدو عرضياً لولا أن ذلك الدعي اعتبره ذبحاً وفق الشريعة الإسلامية مهدداً البريطانيين أنهم لن يهنأوا بالأمن أبداً. هنا تحول المشهد من حادث عرضي ارتكبه مريض عقلياً إلى حادث يضع أمة بأكملها في قفص الاتهام على الأقل عند شريحة معتبرة من الغربيين. ويزداد الأمر كل ساعة وضوحاً لتذوب تساؤلات عديدة في وهج الحقيقة التي لابد لنا وللبريطانيين من مواجهتها. فقد نشأ المعتدي في وسط مسيحي متشدد، ثم أسلم وتقلب في أحضان بيئات الكراهية والتكفير بدءاً بمعلمه الأول مؤسس جماعة المهاجرين، وخلفائه من بعد ترحيله؛ وذلك مما يدل على أن التطرف لا ملة واحدة له. المسلمون معنيون بحماية دينهم من الجرائم التي ترتكب باسمه، ومن المعتوهين والإرهابيين الذين يزهقون الأرواح انتصاراً له على حسب مزاعمهم، وحماية الدين من هذا التشويه المتعمد أولى من حماية الأرواح والأوطان؛ ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بمواصلة حملات التنوير وتأكيد اعتدال الإسلام ووسطيته وتأهيل أجيالنا منذ الصغر على قبول الآخر واستقلال الشخصية في الحكم على الصواب وفعله والخطأ والامتناع عنه بدلاً من عقلية القطيع التي يحركها أفاك أو نصاب فيوجه جموع العوام لما يخدم أهدافه الشخصية ويزيد شعبيته ويحقق له الربح المادي والمعنوي في تجارة بحتة باسم الإسلام. مجتمعاتنا الإسلامية بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة أنماط تفكيرها وفهمها للدين، والالتفاف حول الراسخين في العلم وتلقي الدين من الموثوقين الذين لايسعون للشهرة والمال وإنما ينطقون بالحق وإن خالفهم السواد الأعظم من الناس. أما البريطانيون فإنهم ينفقون أموال الضمان الاجتماعي التي يدفعها الشعب ضرائب من دخولهم في حماية وتدجين الأفكار والفتاوى المتطرفة، وكم من جريمة إرهابية استهدفت مسلمين أو غير مسلمين في بلادنا الإسلامية كانت بسبب فتوى انطلقت من لندن. لا أبرر مطلقاً لمن يرتكب جريمة بشعة بحق الأنفس البريئة وبحق الإسلام والمسلمين، ولكن يحتاج البريطانيون لإعادة صياغة مفاهيمهم عن الآخرين؛ فليس كل من تحذر من فكره وخطره دول إسلامية هو مضطهد بسبب فكره، ومصادر حقه في التعبير. وقد أثبتت الأحداث أن كثيراً من الدول العربية والإسلامية كانت على حق عندما تطالب لندن بتسليم مطلوبين أو مجرمين أدت أفكارهم وحملاتهم وإثارتهم للرأي العام إلى سفك الدماء وتعطيل التنمية وصناعة عدم الاستقرار، فهل أخذت السلطات البريطانية ذلك على محمل الجد؟ لا أشكك في نوايا غالبية عظمى من البريطانيين يعتبرون أن بلادهم حامية الحريات وحقوق الإنسان ويدفعون من دخولهم الشهرية ضرائب لحماية أولئك اللاجئين السياسيين حفاظاً على سلامتهم، ولكن على البريطانيين أن يدركوا أن بعض من يتم إيواؤهم وحمايتهم يستخدمون الأرض البريطانية وقوة بريطانيا العظمى في تصدير العنف والإرهاب والقتل والتفجير بحصانة من القانون البريطاني. وأي حق لمتطرف يصنع الكراهية تحت حماية أنظمة مدنية، ويصدر الإرهاب بجواز بريطاني إلى أصقاع الدنيا؟ لقد أثبتت الأحداث أن تحذيرات المملكة كانت في محلها وأن العالم خسر الكثير عندما لم يعرها الاهتمام الكافي، فالساسة الذين يعرفون جيداً سمات البشر وخصائص الثقافة العربية والإسلامية؛ يشخصون الداء ويصفون الدواء بحكمة، وهم ليسوا من القسوة كما يصورهم مناوئوهم ويستدرون بهم عطف دافع الضرائب البريطاني حتى يتحولوا بعد حين إلى قتلة لمن استضافهم ووفر لهم الحماية ووهبهم ألسنةً طوالاً تتجاوز الحدود وتعبر القارات. أكبرت كثيراً تصريحات المسؤولين البريطانيين المتعقلة وهم يدافعون عن الإسلام وأنه بريء من تلك الجريمة البشعة، وقد أسهم ذلك الخطاب الموضوعي في تجنيب بريطانيا انقسامات حادة كان الإرهاب يسعى لتحقيقها، ومن الطبيعي أن تكون هناك ردود أفعال من عامة البريطانيين، فلدينا متطرفون ولديهم كذلك، ولكن العقل يجب أن يسيطر وقت الأزمات، وأتمنى أن يواصل البريطانيون نقداً ذاتياً يعيد لحق اللجوء السياسي مكانته الإنسانية ولحرية التعبير معناها الحقيقي، ويخلص الأبرياء من فكر الكراهية والفتاوى المفخخة التي يصدرها الإرهابيون من لندن إلى العالم.