الطائفية المذهبية تشتعل في سورية ولبنان والخليج وفي مصر بل في كل أنحاء العالم العربي، ولن تتوقف ومن يعتقد أنها سوف تتوقف يخطئ لأنها دورات تاريخية لم يسمح لها المسلمون بالإغلاق بل كانوا يفسحون لها المجال لتكبر وتزداد عبر تاريخ طويل من الصراع في وسط الدين الواحد تشكلت الكثير من المجتمعات الإسلامية وفق مذهبيات ونمطيات متفاوتة لفهم الدين، واستمر التاريخ السياسي للدين الواحد مصدرا وملهما لكل الصراعات وخصوصا الطائفية التي شهدها التاريخ الإسلامي. لقد استطاع المسلمون عبر تاريخهم الطويل إذابة كل الصراعات العرقية في وسط دائرة الإسلام الذي قام في صلبه التشريعي على عدم التفريق بين معتنقي الإسلام من حيث مرجعيتهم فدخل في الإسلام الكثير من الأعراق ومن كل أنحاء العالم وألوانهم المختلفة والتي استطاعت أن تذوب في الإسلام دون إحساس بالعنصرية ضد عرق بعينه. لم يكن الاختلاف على شكل الدين الاجتماعي كونه ظاهرة عقدية تطلب من الجميع أن يتجه إلى مرجعية واحدة تتمثل في العبادة بل كان الاختلاف على شكل الدين السياسي الذي غيّر مسار أمة بكاملها، فالحقيقة المؤلمة أن البحث التاريخي لازال قاصرا عن تفسير متى وأين ولماذا..؟ كان المنعطف الذي ذهب بمعتنقي الدين الواحد إلى الانقسام الأخطر في تاريخ المسلمين والذي أوجد الطائفية التي تمثلت في السنة والشيعة. وعبر تاريخ هذا الانقسام المذهبي حصلت انقسامات داخل كل مذهب وتشكلت فرق وجماعات كثيرة وأصبحت هناك علاقة طردية بين ظهور جماعة جديدة في كل مذهب، وبين قوة التشدد والتطرف ضد الجماعة الأخرى ووصل الأمر أن كل مذهب وصل إلى أعلى قمة العداء مع المذهب الآخر حتى وصل الجميع إلى فكرة تكفير الآخرين. لماذا وكيف انقسم الدين الواحد منذ اللحظات الأولى لرحيل النبي محمد عليه السلام..؟ هذا السؤال ظل مقلقاً بل إن النتائج التاريخية التي عاشها أتباع الإسلام كلها تصب في الآثار السلبية لتلك الفرقة التي تأرجحت بين أسباب اجتماعية وأسباب سياسية.. اليوم وبعد أكثر من أربعة عشر قرنا من ظهور هذين المذهبين في الإسلام لازال علماء وباحثون من كلا الطرفين يناقشون أحقية كل مذهب بالوجود بعد أن بلغ عمرهما في الإسلام ألفاً وأربع مئة سنة تقريبا وهذا ما يدعو إلى القلق بل ويؤذن باستحالة الحلول الفكرية وخاصة أن الحقيقة أصبحت مملوكة لكل طرف وفقا لأدلته وبراهينه وادعائه. في كل محطة فكرية من تاريخ المسلمين تبرز الفرقة المذهبية وهذا ما يفسر تلك الكتابات والبحوث والدراسات التي أنتجت من كل طرف ضد الطرف الآخر.. وهذا الصراع الدائم لم يكن يرتكز على مسارح الحوار الفكري بين العلماء من كل طرف بل إن إنتاج هذين المذهبين الفكري ظل منفردا عن الآخر يقول فيه ما يريد ويحدد مكانته من الدين كما يريد. لقد ظلت المذهبية السنية أو الشيعية تستند إلى السياسة وحدها وسلطتها لفرض مذهب بعينه حتى أصبحت الظاهرة السياسية في التاريخ الإسلامي على مر العصور تقوم على الاستناد ليس إلى الدين الواحد فقط بل الاستناد إلى المذهب الواحد فقط. ولعل هذا ما يفسر تتابع قيام الدول الإسلامية وظهورها استنادا إلى المذهبية فقليل ما نجد ذلك الاعتراف السياسي بتعدد مذهبي مع انه يوجد بعض الأمثلة غير الواسعة عن فكرة التعايش الاجتماعي بين المذاهب. التحولات التاريخية التي أصابت العالم وخاصة بين القرنين التاسع عشر والعشرين وظهور المنهجيات السياسية الحديثة ودخول العالم في حروب مدمرة أنتجت الأشكال السياسية التي نراها اليوم وهي ما يعبر عنه بالغرب بالديمقراطيات الاقتصادية.. بعد هذه التحولات لم تستطع الدول الإسلامية وخاصة دول الشرق الأوسط وبعد سقوط الدولة العثمانية أن تتجاوز التاريخ وتعيد إنتاج الفكر السياسي وفق النمط الحديث الذي اجتاح العالم. إن فقر الشعوب الإسلامية فكريا وترسيخ النمط التاريخي كخط مرجعي هو السبب الدائم في لجوئها إلى صراعاتها التاريخية لإعادة تشكيل نفسها من جديد، ولكن بذات الأدوات والأفكار وهذا ما سمح للصراع المذهبي بأن يتواجد في كل مشروع سياسي في الدول العربية بشكل خاص؛ فالعرب والفرس وحدهم هم طرف مؤكد في الأسباب التي أدت إلى إطالة عمر الصراع المذهبي حيث اختلطت عبر تاريخنا فكرة القوميات والمرجعيات الاجتماعية مع الفهم غير الدقيق للصيغة السياسية للدين والمدى الذي يجب أن تتواجد فيه الأديان في السياسة. اليوم ومنذ الثورة الإيرانية قبل أكثر من ثلاثة عقود نشهد عودة جديدة اعتدنا عليها كمسلمين عبر دول تنتمي سياسيا إلى الصراع المذهبي فعبر التاريخ نحن نسمي المسارات السياسية للشعوب الإسلامية بأسماء مذهبية - دولة سنية ودولة شيعية- ولأن التاريخ هو أسرع المخلوقات الفكرية ظهورا عندما تستدعيه فإن ظهور دولة إيران كطرف شيعي أصبح ملزماً لدول أخرى أن تنعت ويرمز إليها بأنها دول سنية كعملية مناظرة سياسية بين السنة والشيعة وكما تعلمنا من التاريخ الخاص بنا بأنه يصبح من الضروري أن تدخل الدول المذهبية في صراع لا ينتهي ولكنه يعاد إنتاجه على شكل دول أو أحزاب يوظف من خلالها المال والأفكار لنشر مذهب ضد الآخر. اليوم حيث يتساءل الكثير عن تلك الظاهرة التي حولت الثورة السورية من ثورة حقوقية يطالب الشعب فيها بحقه إلى ثورة تكسوها المذهبية حيث يكشف لنا الأفق السياسي لهذه الثورة يوما بعد يوم عن أننا وسط عملية إشعال فكري للدين وقوده المذهبية ليبقى السؤال التاريخي لمن الإسلام اليوم ولماذا...؟ الطائفية المذهبية تشتعل في سورية ولبنان والخليج وفي مصر بل في كل أنحاء العالم العربي، ولن تتوقف ومن يعتقد أنها سوف تتوقف يخطئ لأنها دورات تاريخية لم يسمح لها المسلمون بالإغلاق بل كانوا يفسحون لها المجال لتكبر وتزداد وهذا ما تحصده الأجيال اليوم حيث يضطر كل فرد في الأمة الإسلامية إلى إعلان انتمائه إلى مذهب بعينه لان المجتمعات الإسلامية فرضت هذا الانقسام. لن تكون عبارات الوحدة والتعايش هي الحل الأمثل لتجاوز هذه الشجرة من الفرقة والتي يزيد عمرها على ألف وأربع مئة عام وإذا لم يقطع الماء عن هذه الشجرة وتزال بكل جذورها وأغصانها وأوراقها فلن نجد أنفسنا سوى متقاتلين تشعل الطائفية فينا أزمة الدين المنقسم..