لقد أفضى معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين رحمه الله إلى ربه عز وجل، وقيل عنه الكثير وكتب عنه الكثير، ولا يزال في جعبة محبي الشيخ وعارفيه ما يمكن قوله مما يزيد سيرته الوضّاءة ألقًا ويضيف إليها تفصيلات أدق، مما يضفي عليها مزيدًا من الثراء لمن أراد أن يقتبس منها أو يطلع عليها، ويعمّق القيم والمرتكزات التي كان معاليه يستحضرها في كل أموره ويبني عليها جُلَّ شؤونه، ومما لاح لي خلال تأملي فيما عرفته عنه أن القيمة التي قد توصف بأنها تعد علامة مميزة للشيخ ومهيمنة على غيرها من القيم ومعياراً حاكمًا على ما سواه، قيمة التوازن ومعيار الاتزان في كل شيء، مما جعله في حياته العامرة ومناصبه المختلفة يسير على خطىً ثابتة ورؤىً تامة الوضوح، مما لا يتأتى إلا للقليل من الناس. وإن كان غالب ما كتب عنه يتناول مسيرة حياته الشخصية من نواحٍ مختلفة، إلا أنني ألمس قصوراً في تناول مسيرة حياته من الناحية الوظيفية، وبخاصة في مجال اختصاصه القانوني، ولعلي هنا أدعو أخي معالي الدكتور مطلب بن عبدالله النفيسة إلى أن يكتب مقالة مفصلة في هذا الشأن فهو من أعرف الناس به واكثرهم لصوقاً به في عمله. لن أضيف في مقالي الموجز قصصًا عشتها معه أو أخبارًا سمعتها منه أو تجارب عملية أو علمية شاركته فيها فذلك شرف لا أدعيه، وإن كان يسرني الانتساب إليه بأنني حللت في مكان كان من رواده منذ أكثر من ثلاثين عامًا، إذ كان مشرفاً على شعبة الخبراء (قبل أن تصبح هيئة فيما بعد)، فكل ذلك مما لا أرمي إليه في هذا المقال، فهناك من هو أقرب إلى الشيخ مني وأعرف بجميع أحواله وأقدر على إبرازها وإظهارها، وهو مدرسة فيها كلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. أما ما أود إلقاء الضوء عليه فهو خطاب أرسله إلي بتاريخ 22/10/1433ه ونصه: "معالي الأخ العزيز الدكتور عصام بن سعد بن سعيد رئيس هيئة الخبراء بمجلس الوزراء حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فبرفقه كتاب كان الدكتور مطلب النفيسة اقترح علي قراءته فاستعرته من مكتبة الهيئة، وللأسف نسيت إعادته للهيئة بعد قراءته، ولكن لحسن الحظ أني كنت كتبت ورقة بداخله تفيد بأنه مستعار من الهيئة، وعثرت عليه الآن عند إعادة ترتيب مكتبتي الخاصة. آمل التلطف بالإيعاز بوضعه في مكتبة الهيئة، ولمعاليكم أوفر الشكر وأجزله. أخوكم صالح بن عبدالرحمن الحصين" ودعونا نتأمل معًا هذا الخطاب بوصفه ( علامة ) تبرز شيئًا من ملامح شخصية هذا الرجل الفذ، فمن ذلك ما يأتي: أن الشيخ حرص على أن ينسب الفضل ولو كان يسيرًا إلى أهله، بأن معالي الدكتور مطلب هو من اقترح عليه قراءة الكتاب، فما بالك وقد مضت على ذلك سنوات طويلة، وربما كان المقام والهدف من الخطاب لا يستدعي ذلك، إلا أنه صاحب نفس كريمة وكبيرة، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل. أن الشيخ كتب خطابًا يطلب فيه إعادة كتابٍ واحد مرت على استعارته إياه سنوات طوال، ومع ذلك لم يقل (بسيطة والكتاب بداله كتاب) أو (إنني زودت مكتبة الهيئة بأضعافه من الكتاب) ولا يضير بقاء هذا عندي أو (الكتاب ليست له علاقة باختصاص الهيئة ومن ثم فلا حاجة إلى إعادته).. إلى غير ذلك من الأعذار التي قد تتبادر إلى الذهن في أمور أكثر أهمية، لكنها قيمة الأمانة المترسخة في وجدان الشيخ النبيل رحمه الله، والمحافظة البالغة الندرة على المال العام، لا رجاءً لشيء ولا خوفاً من شيء بل هي قناعة متغلغلة في أعماقه، إنها نموذج راقٍ للمواطنة الحقة. أنه بعد حياة مديدة حافلة، اكتفى الشيخ بخطاب بسيط على ورقٍ عادي، وكلنا نعرف أن الصغير قبل الكبير يحرص على أن تكون ورقة الخطاب من خامة فاخرة وذات إطار مميز وربما كانت مذيلة في أعلاها أو أسفلها بالاسم بلونٍ ذهبي. وهذا مؤشر على منهجية (البساطة) في الحياة أو ما يسميه اليابانيون (الكايزن) أو ما يسمى بالتحسين المستمر في العرف الإداري وهو ملمح من ملامح زهده، ولو كان يسيرًا، إلا أنه يدل على ما بعده. أن الشيخ استفتح خطابه ب(الأخ العزيز) وهو شرف لي، وهذا من تواضعه الجم، وإلا فأنا في مقام أبنائه، بل زاد من إكرامي وأرسل مع الخطاب مقالين مطولين رغبة منه رحمه الله في اطلاعي عليهما، وهذا من حسن ظنه، وهو من هو علمًا وحكمة وبعد نظر وحسن تأتٍّ للأمور. ولعلي أختم بما ختم به د. زياد الدريس مندوب المملكة الدائم لدى اليونسكو مقاله المميز (وزير بلا أوزار) المنشور في صحيفة الحياة الأربعاء 8 مايو 2013، حاكيًا عن موقف حصل له قبل سنوات عدة، حيث أقيم حوار جماهيري مفتوح مع الشيخ صالح الحصين والدكتور غازي القصيبي رحمهما الله، وبدأ الدكتور زياد في مداخلته فبدأ بامتداح الضيفين البارزين، فقاطعه القصيبي مبتسماً: يا زياد امدحني أنا بس، الشيخ صالح لا يحب المدح. وبعد، فمجال القول واسع وميدانه رحب، ولا سيما إذا كان عن قامة قانونية وعلمية شامخة كالشيخ صالح الحصين أجزل الله مثوبته وجمعنا به في جنات النعيم، ولعل الأيام المقبلة تخبئ في طياتها بشرى لنا بسيرة جامعة لكل ما يتصل به، مما ستقرؤه الأجيال وتستفيد منه وتترسمه في حياتها. * رئيس هيئة الخبراء بمجلس الوزراء