الوحدة اليمنية لم تكن في يوم من الأيام غلطة تاريخية، أو نزوة سياسية، أو احتلالاً كما يصنفها اليوم بعض دعاة التمزّق والانفصال، بل كانت -ولازالت- إرادة وخياراً شعبيّاً وحاجة وطنية، وستظل على الدوام حقيقة تاريخية مطلقة متحررة من القناعات والرغبات والأهواء والمصالح الذاتية، تسمو بوجودها وفعلها على كل الثقافات والطموحات العصبوية الضيقة، لم تصنعها الصدف، ولم تأت من العدم، ولم تحققها الأمنيات، وإنما جاءت نتيجة نضالات وطنية طويلة وتضحيات جسيمة للحركة الوطنية اليمنية قائدة نضال الجماهير، والحاضن والرافع للوحدة كهدف وطني استراتيجي فرضته القوانين الحتمية لمسار صيرورة التاريخ الوطني الدافعة باتجاه التوحّد والتكتل الوطني الذي تحتمه احتياجات واشتراطات التطور، باعتبارها أحد أهم العوامل الموضوعية والشروط الذاتية الحاسمة في الخروج باليمن من واقع النسيان والتخلّف الشامل والمُريع، ومستنقعات الصراعات والحروب الداخلية المدمرة، وثقافتها الآسنة التي أثقلت كاهل اليمنيين، وجردت وطنهم من كافة قدراته وإمكانياته المحفّزة على النهوض والتقدم الحضاري، واللحاق بركب العصر وتطوراته المذهلة. لقد جاءت الوحدة اليمنية ورديفها الديمقراطية كمشروع تاريخي وطني نهضوي، وخيار استراتيجي لا بديل عنه لتجاوز كافة مصادر وأسباب الصراعات والمآسي وحالات الفشل الدائمة التي صاحبت كافة التجارب والأنظمة السياسية الشطرية السابقة التي اتسمت بالعجز المتواصل عن تحقيق تطلعات اليمنيين في النهوض بواقع الوطن أرضاً وإنساناً، واخفاقاتها المتكررة في الحفاظ على السيادة واستقلالية القرار والإرادة الوطنية، وعلى الأمن والاستقرار الاجتماعي، واقتصر دور تلك الأنظمة ووظائفها على إعادة إنتاج وإشاعة عوامل التخلّف والفقر، وتأجيج الصراعات التناحرية، والاقتتال القبلي الداخلي على السلطة والثروة.. عبر مختلف المراحل كانت الوحدة اليمنية الأرضية الخصبة والمواتية التي بذرت في أحشائها نواة الكفاح الوطني والقاعدة الاجتماعية والجغرافية والسياسية التي قام عليها نضال الشعب اليمني ضد الاستعمار الأجنبي والاستبداد الإمامي، وشكّلت على الدوام الحاضنة الفكرية والثقافية والسياسية لوحدة وتكامل كل قوى الشعب الفاعلة، والأداة الحاسمة لانتصارها، وسلاحها الأمضى لتحقيق كل التطلعات الوطنية في الحرية والديمقراطية والتطور والنماء، وكانت عنواناً خالداً لنضال الشعب اليمني وكافة قواه الوطنية باختلاف مشاربها السياسية والفكرية وانتماءاتها الجغرافية، ودفع الشعب ثمناً باهضاً وتضحيات جسيمة لتتحول الوحدة من مشروع نظري وحلم وطني إلى حقيقة حياتية مُعاشة. لقد خاض اليمنيون حواراً شاقاً استمر أكثر من ربع قرن جسّد حاجة الشعب اليمني إلى الوحدة، وضرورة تجاوز كافة الصعوبات والعراقيل التي كانت تُزرع في طريق العمل الوحدوي بسبب الحسابات الضيقة والمصالح الفردية والحزبية المتناقضة مع مصالح الشعب اليمني، وأيضاً بسبب القناعات النخبوية المنساقة ضد إرادة الجماهير، والتي شكّلت في مجملها وسائل إجهاض للمشروع الوحدوي، وأعاقت ولادته، حتى جاءت اللحظة التاريخية الحاسمة، والفرصة التي لا يمكن أن تتكرر، والظروف الوطنية والإقليمية والدولية المواتية لتحقيق حلم الأجيال وهدفها السامي في الماضي والحاضر والمستقبل بعد أن تمكن اليمنيون بتوفيق من الله سبحانه وتعالى وبإصرارهم وعزيمتهم من تحرير العمل الوحدوي السلمي من قيود المزايدات والمساومات السياسية، والمواقف والحسابات الإيدلوجية الضيقة المتناقضة مع نفسها ومع الشعب. لا يمكن لأحد أن ينكر أن هناك أخطاء وممارسات غير مسؤولة، وإخفاقات اتسمت بها مرحلة مابعد الوحدة اليمنية وحتى اليوم، حفلت بعديد من المظالم والتعسفات والتعقيدات خاصة في المحافظات الجنوبية والشرقية بسبب أطماع وسلوك القوى المتمصلحة وأصحاب النفوذ، انعكست سلبياً على مشاعر المواطنين، وخلقت لديهم حالة من اليأس والإحباط جعلتهم يُحمّلون الوحدة مسؤولية كل الاخفاقات والأخطاء والممارسات السلبية التي استغلها البعض للتعبير عن مكنونات نفوسهم الرافضة لفكرة الوحدة ومطالبتهم بالانفصال، غير مدركين مخاطر دعواتهم تلك، وغير مستوعبين بأن الوحدة أصبحت مُحصّنة بالشعب اليمني الذي التحم في كيان وطني واحد يستحيل معه فصم عرى التوحّد والترابط العضوي والمصيري، وتشابك المصالح بين أفراده، وأنه سيظل على الدوام الضمانة الأكيدة والقوية لحماية هذه الوحدة، وحماية أمن الوطن وسلامه الاجتماعي، إلى جانب الدعم القوي والتأييد الواسع إقليمياً وعربياً ودولياً لوحدة وأمن واستقرار اليمن، تجسد ذلك في حرص المجتمع الدولي على نجاح مؤتمر الحوار الوطني الشامل وحل كل القضايا الشائكة وفي مقدمتها القضية الجنوبية التي لا يمكن أن تُحل إلاّ عبر الحوار الذي يمثّل الفرصة الذهبية والأخيرة أمام اليمنيين لبحث كل القضايا والمطالب الحقوقية على طاولة الحوار، وصولاً إلى المعالجات والحلول المناسبة لها تحت سقف الوحدة، وبما يعزز الاصطفاف الوطني، وبناء اليمن الجديد، وإقامة الدولة المدنية الحديثة على أساس الديمقراطية والعدالة والمواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص أمام الجميع، وبما يجنّب اليمن التشظي والتمزّق وويلات الصراعات والحروب.