يقول الناقد الأدبي الروسي الشهير فيساريون بلينسكي (1936-2001م) تعمل العادات الشعبية على تزيين وجه الأمة، وبدونها تكون الأمة كوجه بلا ملامح"، لذا يسعى كثير من الأدباء، سواءً كانوا شعراء أو روائيين أو مسرحيين، إلى إضفاء نكهة فلكلورية على كتاباتهم، فيضمنونها لوحات محلّية، قولية كانت أو أدائية غير أن منهم من يلجأ إلى هذه الأمور على سبيل الحلية أو الطرافة، وإن كان الأمر مختلفاً بالنسبة لبعض الكتاب مثل الكاتب الصيني "لاوشي" فاشتمال كتاباته على هذا الفيض الزاخر من العادات الشعبية في بكّين يعتبر جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني، بل أنها تمثّل له ماتمثله اللحمة بالنسبة للسداة في النسيج، ولو جرّدت العمل الفني من هذه العادات لتداعت أركانه! وبالعودة إلى قول بيلينسكي: "كل هذه العادات تعمل على تزيين وجه الأمة، وبدونها تكون الامّة كوجه بلا ملامح" نرى أن العادات تقوم بدور مهم في تكوين النفسية العامة للأمّة، وإن كان هناك في العادات مظاهر رجعية أو قديمة أو حتى حقيرة، فنحن لا ننظر إليها نظرة الحنين إلى عالم مفقود، ولكن لا بدّ من توثيق كل ذلك، كما فعل الباحث والروائي خالد اليوسف في روايته الثانية الصادرة في بيروت عن مؤسسة الانتشار العربي، التي عنونها ب "نساء البخور"، وقد جاءت الرواية في 145 صفحة، وتأتي هذه الرواية بعد تجربته الأولى في وديان الابريزي التي صدرت عام 2009م، وهي العمل التاسع في كتاباته الإبداعية، حيث سبق له أن أصدر سبع مجموعات قصصية، بدأت بمقاطع من حديث البنفسج التي صدرت عام 1984م. يأتي أحد مقاطع الرواية ليصوّر حياة تلك الفترة بعاداتها: "ها هي «المقيبرة» تزدحم بالنساء البائعات لكل الأصناف والصناعات اليدوية والمستوردة، يبدأن بالتوافد بعد صلاة العصر فتجدهن يفترشن الأرض مجتمعات، فتراهن وقد اصطففن متربعات أمام محراب مسجد «المريقب» وسط «المقيبرة» يبعن أنواع الحب المملح والمحمص، وكل واحدة منهن احتضنتْ زنبيلها الكبير المصنوع من سعف النخيل، وقد امتلأ بالجديد من الحب، ومقياس بيعها الصاع والمد والنصيف، أو كأس لا يملأ بما يتجاوز قبضة اليد، يزدحم الشارع بهن وبمن يقف حولهن، وهو الشارع الإسفلتي الوحيد الذي يقسم «المقيبرة» إلى نصفين غربي وشرقي، وترى الفتية ومن هم في مقتبل العمر يلتفون حولهن، إما لشراء الحب أو لخطف نظرات وهمسات وابتسامات متبادلة ممن يماثلهم في العمر، وحول بائعات الحب نساء أخريات يبعن حلوى الحلقوم و"الكليجا" وغيرها بأسعار مخفضة عن بيع المحال التجارية المعروفة." أ.ه لقد أشار الروائي الروسي العظيم ليو تولستوي (1828-1910م) – رحمه الله - ذات مرّة إلى أن أكثر الخصائص غنى في مقطوعة أدبية جيّدة هي قدرتها على "تقديم لوحة مبنية على حدث تاريخي"، لذلك نرى أن عادات الشعوب الخاصة بالنساء والتي كانت توصف أحياناً بأنها غير عادية، يمكن أن يقال عنها بتعبير أدق بأنها عادات تقوم على التمييز وعلى الرغم من أن نساء سوق المقيبرة في رواية "نساء البخور" كنّ أميّات فقد كان يفرض عليهن كثير من المحرّمات، فكيف إذا كانت تلك الحكايات التي تروي العادات والحياة الاجتماعية لهن والأفكار السياسية المصحوبة في ثنايا السرد الروائي مدوّنة وموثّقة ومحفوظة من الضياع من قبل روائي مثقّف استطاع أن ينقل الجيل الجديد إلى جيل وحدث بعيد انتهى بوفاة الملك سعود -رحمه الله-؟! يرد أحد المقاطع بهذه الصورة: "النساء في «المقيبرة» لا يتحرجن عن بيع كل شيء يخطر بمخيلتك أو لا يخطر؛ ستجد امرأة تبيع دجاجاً وحماماً في قفص تنقله معها أينما رغبتْ واقتنعتْ بالمكان الذي يرضيها، وتجد امرأة تبيع أكياس الخبز المجفف الفضلة من بيوت مترفة ومنعمة، وفي زاوية بعيدة ستجد امرأة تبيع صغار الماعز والخراف والأرانب وهي لم تفطم بعد من أمهاتها، وتجد امرأة تبيع صناديق من الخشب أو الورق المقوى وهي فارغة وصالحة للتعبئة ولحمل ما يشتريه المتسوقون، أما النساء الأكثر دهشة للمتسوقين والمتجولين فهن اللاتي افترشن الأرض ليبعن الكتب القديمة والمستعملة والمجلات الممزقة دون أغلفة، وحين تسألهن عن عنوان كتاب يهمك البحث عنه تجيبك أنها لا تقرأ ولا تكتب، وستجدهن منتشرات في نواح متفرقة من سوق المقيبرة، وتجد امرأة أو أكثر من ذلك في سوق البطيخ والقرع الأحمر والشمام، وقد جلست تحت مظلة وتبيع من الصباح الباكر بعد أن حضر زوجها مزاد البيع واشترى ما يستطيع شراءه وتتولى هي البيع، وستجد نساء أكثر شجاعة من غيرهن لأنهن يحضرن ضباناً برية بكل الأحجام، وقد عقدت أذيالهن ورقابهن بحبال قوية لكي لا تؤذي المشترين والمتفرجين." أ.ه إن حبّ المرء لوطنه يرتبط بروابط وثيقة مع حبّه للمكان الذي ولد فيه ولصلاته العائلية كما يقول العالم والباحث السويدي هانز ألفين (1908-1995م)، ولذلك نجد الروائي والقاص خالد اليوسف ارتبط ببيئته النجدية ليقدّم شيئاً له من خلال روايته الأخيرة "نساء البخور" التي اعترض كثيرون على تسميها ومنهم الروائي المصري فؤاد نصرالدين والروائي السعودي أحمد الدويحي فقد كان الأول يتمنى تسميها ب "المقيبرة" حيث يراه الاسم الأشمل لها والدال على ما فيها من أحداث وأنه قد فعل ذلك معظم أدباء العربية خاصة نجيب محفوظ (1911-2006م) – رحمه الله- في رواياته: خان الخليلي / بين القصرين / قصر الشوق / السكرية/ ميرامار...إلخ وكان الآخر قد عنون مقاله بتسمية لها وهي "نساء المقيبرة"، حيث رأى أنها استحضرت مرحلة زمنية تاريخية بعيدة، تعود بنا إلى الرياض القديمة جدًا قبل الطفرة، وتحدد مكانًا للرواية الجهة الجنوبية الغربية للمدينة، وأنه اختار بذكاء نافذة لحركة شخوص الرواية، سوق المقيبرة المجاور لمواقف سيارات طريق الحجاز، لتهب على المدينة الصحراوية رياح التغيير عبر مينائها البري، فالسوق مكان تجتمع فيه كل الشرائح البشرية المتنوعة، فكيف بالشريحة التي تتناولها الرواية؟ شريحة نساء البخور المحملة بالحكايات من داخل البيوت وفي السوق، نساء ورجال من عالم المهمشين والغرباء عن التقاليد النجدية، النساء الجائلات ضحى كل يوم بلفائفهن الكبيرة على رؤوسهن بين البيوت، إذ نقرأ في مقطع من مقاطعها: "وللنساء في سوق المقيبرة تنافس وتصاعد أصوات لا حدود لها، يفرضن أماكن وجودهن في البيع بحسب رغباتهن، فيتنقلن كيفما شئن أو أردن، مع استمرار خواء أيديهن من المال الذي يوفر لهن محال يستوطن فيها، يرحلن ويحللن مع حركة المتسوقين والبائعين، إلا أن الصيف الملتهب بحرارته الشديدة يطردهن، والشتاء الجاف بصقيعه يخيفهن، فلا يخرجن من بيوتهن خشية البرد وأمطاره الضارة، ينقلن لفائفهن الممتلئة كل واحدة بما تخصصتْ به على رؤوسهن، أو على عربة يستأجرنها وإذا طاب لهن المكان جلسن فيه." أ.ه يؤرخ الروائي خالد اليوسف لبداية عالم روايته عام 1963 وهو تاريخ له مبرراته السياسية والاجتماعية، فالسياسية تعني بالثورة اليمنية ضد الملكية في تلك المرحلة، وتربط دلالتها بالشريحة الرجالية اليمنية في سوق المقيبرة، كما أنها تؤصل للهجة النجدية آنذاك، وذلك عبر انسياب الحوارات التي ترد في ثنايا الرواية دون إقحامها في السرد: "- هاه يا أم عبد الله، وين رحت، وش فيك سهيت على؟ - لا. لا أنا معك بس أنى أهوجس بسوقنا وخرابيط البلدية اللى تخوفنا فيها كل شئ. - وش صاير... فيه شى ؟ - يبغون ينقلون السوق..." أ.ه ورغم أن رواية اليوسف "نساء البخور" تمتلئ بالكثير من الحوار الذي ينقلنا إلى اللهجة النجدية القديمة إلى أنني تمنّيت أنه أطال في الرواية لأنها بمثابة بذرة يمكنها أن تنمو، فقد وثّق فيها تلك الحياة التي لم يعشها الروائي نفسه ومع ذلك عشنا معه تلك الفترة، كما تمنّيت أن يدعم الرواية باستشهادات من ذلك الزمن الجميل المليء بالشعر والفن الشعبيين، مثل قصائد عبدالله اللويحان – رحمه الله- التي قال مناصفة منها في تلك الفترة سواءً مايتعلّق بأماكن داخل الرياض القديمة أو خارج السعودية مثل الأماكن في القاهرة بمصر الشقيقة مثل قوله: الله يعنيك يازول نطحني بايمن السوق بالمدعى حادر من عند سوق الجودرية ما انا بعرفه لا شك انه لطلاب الهوى عوق يسوق راعي الهوى سوق المنجب للمطية وقوله: إن مت في شارع فؤاد ادفنوني ياطا على قبري بنات مزايين ما عاد أكذب عقب شافت عيوني بنات من نسل البوش والسلاطين شفت الزهو بناعمات الغصون ما دونها حارس على العسر واللين أحد يدور للبضاعة زبون واحد تفسح قاضبين القوانين شارع به اجناس على كل لون ما داج فيه أهل الحسد والشياطين يا عاذل راعي الهوى ما تمون تنقد وعنك الناس ما هم بدارين الناس في سجات ما يسمعون الوقت عدل ومثله الناس عدلين ياأهل العقول الطيبة سامحوني كل برايه يحسب العشر عشرين