الشاعر: علي بن سعد بن قاسم، شاعر من جيل القرن الرابع عشر الهجري ، ولد في الأربعينات أو قبلها بقليل ولكنه لم يدرك سنة الرحمة المشهورة، أو ما يسمونها سنة الصخونة التي يؤرخ بها الكثيرون من جيل الأمس ، وقد توفي في نهاية القرن الرابع عشر ولم يبلغ بعد السبعين من عمره. كان مولده ووفاته في بلدته القصب ، من إقليم الوشم ويعد من أبرز شعرائها المتأخرين له من الذرية ابن هو سعد بن علي، وهو شاعر أيضا ولكنه من المقلين في عطائهم الشعري، يقول شعرا في مناسبات محددة عندما تكون قريحة الشعر تفرض عليه ضرورة الاستجابة لها ليعبر عن مشاعره، شاعر جزل اللفظ والعبارة، و له توجه مختلف تماما عن طريقة والده من حيث الطرح والأسلوب وبناء الفكرة والكلمة الشعرية. يتميز شعر علي بن سعد بن قاسم رحمه الله، بأنه يحمل توجها فريدا قل أن يشابهه شاعر آخر في الإقليم، فليس غزله الشعري مشابها لغزل الشعراء ولا تناوله لموضوعات شعره مشابهة لغيره، يظهر في شعره جزالة اللفظ وجودة العبارة وبساطة الأسلوب وشعبية الكلمة إن صحت العبارة، يطرح قصائد في متناول الفهم الاجتماعي المحلي، يستقي ألفاظه من مفرداتهم السهلة البسيطة، وينتهج الشعر التقليدي مع التأكيد على المحلية الاجتماعية والمكانية ولم يمتد بعيدا عن محيط بلدته ومجتمعه وأهله وناسه، كما أن فكرة قصائده وجلها ذات مغزى يوصل إلى التنقل والكسب الاجتماعي وتقديم نفسه للآخرين على أنه محب لهم متودد لرضاهم ومصادق للجميع وكأنه يقول لهم : إني أحب الجميع وقريب من قلوبهم، وليس هدفه التكسب المادي، وفرق كبير بين الدلالتين وأعني بهما: التكسب المادي، والكسب الاجتماعي، فالتكسب المادي تقديم الشعر من أجل عائد مادي أيا كان وهذا بعيد عنه كل البعد، وهذا أيضا يفقد القصائد روحها ونبض المصداقية فيها، بينما كسب الآخرين وصداقاتهم والتلاقي معهم يقربه منهم ويقربهم منه وهذا بالفعل ما حصل. فالشاعر غير متكسب بشعره ، ولهذا كسب الكثير من محبة المجتمع ومالت قلوبهم إلى إشاداته، وتقبله كشاعر اجتماعي قريب منهم ملتصق بنسيج المجتمع متغلغل فيه، تنتقل قصيدته من بيت إلى بيت، وربما كل يوم له قصيدة جديدة بعدد من يخطر على باله. قصائده سهلة بسيطة هادفة موجهة بصراحتها ورموزها وأحيانا شخوصها وفي الوقت نفسه تجد لها قبولا، لأنها تعني الأسرة أحيانا وربما تعني شخصا محددا سواء أكان رجلا أو امرأة ، مع حفظ للسمت والتزام به وبالمحافظة عليه ، يصف المقصود بالقصيدة بأحسن صفاته ويمدحه بما فيه دون مبالغة تطيح بالقصيدة أو تقلل من قبولها، ويهدف بالدرجة الأولى إلى الثناء على الأسر والأفراد ورفع مقاماتهم وتقديرهم بقصائد يفردها للأفراد ذكورا وإناثا في محيطه الاجتماعي وخاصة بلدته القصب ، ويذكرنا شعره بابيات صاحب الظرف والفكاهة الدارمي الذي قال في وصف الخمار الأسود: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد فكان من تلميحات ذاك الشاعر لجمال الخمار الأسود وهو الحجاب طبعاً أو ما يسمى الشيلة في بعض المناطق أو حتى النقاب، أن راجت جميع الخمر السود التي أصابها الكساد مع التاجر القادم من الكوفة إلى المدينة وكان يظن أنها لن تقبل، لكن القصيدة بثت روح القبول فيها بعد شهرتها بالحسن، وبيعت من يوم سماع الأبيات في جمالها. فالشاعر علي بن سعد بن قاسم ، يأخذ طريقة الفخر بخصلة الممدوح كما أخذها ذاك الشاعر ايضا عندما رفع بني أنف الناقة حتى افتخروا بأنفسهم ، وقلبت موازين سابقة عند مجتمعهم. إن بن قاسم من الشعراء الذين يميلون بشعرهم إلى الطرافة والفكاهة وفي الوقت نفسه التودد والتقرب للقلوب بقصد القبول والتغلغل الاجتماعي ووضع أبياته وقصائده موضع المدح والثناء وإبراز محاسن الآخرين بعيدا كل البعد عن الهجاء أو صفات الانتقاص أو الانتقاد أو التشويه للصفات أو ذوات الآخرين، فقابله المجتمع بالطريقة المحببة نفسها من حيث حفظ قصائده وتناقلها على أنها نوع من ذكر الخصال الطيبة في الأسرة التي ذكرها أو الأفراد الذين أفرد لهم قصيدة وإشادة. بين يدي للشاعر علي بن قاسم ، أكثر من ثلاثين قصيدة لم يذكر في أي منها مذمة لأحد ولا إشارة إلى التقليل من أحد، بل كلها تأخذ الجانب القيمي الذي للأفراد ومكانتهم المقبولة عنده من أصالة ورفعة وفخر بها ، وأنه يخطب ودهم وقربهم وتقربه إليهم دون أن يضع نفسه بالطبع موضع المحتاج لشيء من الماديات أو يعود عليه بنقيصة أيضا أو يهبط بالمعاني سواء عليه أو على غيره ، مما يؤكد في ثنايا قصائده أنه يضخ القصائد المتوالية كبرقيات رفعة تزرع المودة وتعزز السرور والفرح والمرح أيضا ينتقل بها من بيت إلى بيت ومن طريق إلى آخر ، وحي وراء حي من الأحياء في البلدة كلها وكأنه يعطي كل قيمته وقدره ونصيبه من محبته التي يعبر بشعره عنها. ولأن الشاعر يذكر الأسرة بتفاصيلها من الأب والأم والقرابة ويخطب قرابتهم ويتمناه لنفسه، أو يبرز صفات محصورة محددة فلن أذكر سوى استهلال بعض القصائد مما يغني عن الاسترسال ، فليس من المستحسن استعراض القصائد التي هي في الأصل موجهة، وعلى نطاق محدود الانتشار لا يتعدى نطاق المجتمع الذي عاش فيه الشاعر يقول في قصيدة: يا خالتي ويش اسوي ضاعت الحيلة من صاحب صد عني لفت أنظاره تحزمي لي على المجمول بالشيلة شيري عليها ومثلك تقبل أشواره قلبي لها مثل وادي حادر سيله يطمي على المرتفع ويقلع أشجاره يا انديراغاندي جميع الهند يصفي له مازال في حكمها لو ما بنى جداره ويقصد بأي خالة يذكرها في قصائده كل من يكون له مع أسرتها مصاهرة أو يتزوج منهم . ومعروف أن لقب الخال والخالة في مجتمعنا هما أبوا الزوجة ويقول في قصيدة أخرى: صاحب كن القمر في فرع جيبه من قفى الهامة إلى شسع النعالي يحشم الطيب على فعله وطيبه يذكرونه من مقاديم الرجالي راعي الشبات بدلال ربيبه ما يقول البن في مشراه غالي صافي نور القمر ما انحى مغيبه مشرف نوره على روس العلالي ويقول أيضا بداية للرد على شاعر آخر حول التنافس على كسب ود المجتمع: يا مل قلب همومه توجف أوجاف مسجونة فيه تقبل به وتقفي به أنا ضعيف الجهد وأمشي وأنا حافي وهو له الراسيات وممتلي جيبه قولوا له إن كان عنده عدل وانصافي فالحب قد جربه مثلي ويدري به ويشير فيها إلى أن منافسه غني يملك النخيل والمال ، بينما هو ضعيف الحال فقير ويطلب العدل والإنصاف ويقول في قصيدة أخرى: أنا لوه يداويني نحرته واستلذ دواه فلكن قاسي ما هوب لا يرحم ولا ياوي صواديف الدهر تصدف رحل عن سوقنا وش جاه عسى ربي يسمح دربه اللي تو هو ناوي أنا لوه يبيني كان بسياقه ندور رضاه وأضيّف بالغنم له كلها لا يسرح الشاوي وكلمة: نحرته، تعني: قصدته وتوجهت إليه وذهبت لكي يداويني. و هي مأخوذة من النحر وهو مقدمة الصدر أي قابلته وتوجه إليه بنحري ويممت جهته. وقد تودد ابن قاسم لشاعر قريب من مدينته بأن يترك له الميدان الذي هو فيه ولا يتطرق بشعره حوله فرد عليه ذاك الشاعر بقوله: يا مل عين تغير نومها الصافي قول بن قاسم جرحني ويش اسوي به طاح يترحم وخلى القلب به خافي وأصبحت عاف عن اللي هو يهذري به ابشر بها يابن قاسم لا تخف عافي من عقب نثرة دموعك جتني الريبة وهي قصيدة أطول من هذا لكنه يصرح بمسميات لا يحسن إيرادها. وقد ذرك الكد ، وهو العمل في الزراعة في بيتين ضمن قصيدة تأخذ المنحى نفسه من حيث الكسب الاجتماعي وذكر الخصائص الاجتماعية النبيلة وربما مال ناحية الغزل البريء فنورد البيتين فقط حيث يقول: الدين يكثر ولا حنا بموفيني الكد ما ينبغى باسباب تكليفه أهل المطالب على ما قلت زعليني كل على راس ماله صايبه خيفه يالله علسى اللي عطاه اليوم يعطيني حظ من المال ما تمرح مجاديفه أسلى عن الهم كثر الهم مقزيني مع صاحب كنه القنديل توصيفه ونختم ببيت قاله لمزيد من المديح في اول قصيدة مشابهة لقصائد الإشادة وهو يوجهها بقصد، فيقول: والله إني على بدع بالأمثال تايب مار هيّضتَني يا أبو هروج عجيبة ويقصد من بيت الشعر هذا، أنه تاب عن قول الاشعار لكنه يعود مرة أخرى بعد أن هيضه الموقف الجديد ورأى الحسن باعتباره محفزا له على العودة لشعر المديح والثناء دون قدرة له على المقاومة، وهي استهلالية بالبيت ليقول قصيدته التي يقصد منها مزيد من إظهار صفات الحسن ورفع شأن الممدوح كأسلوب يجيده ويؤكد عليه. رحم الله الشاعر علي بن سعد بن قاسم، كم كان لطيف المعشر محبوباً في مجتمعه صاحب طرافة في إلقاء قصائده يضيف تعليقات عفوية بين كل بيت وبيت، ينساق وراء المعاني بتفاصيل تجعل من حديثه سلسلة من المتتابعات القصصية التي تظهر للسامع أنه بالفعل جزء فاعل وقريب من كل الأفراد في مجتمعه مقبول في فكاهته وطرفته وغزله ومدحه وردوده أيضا على شعراء معاصرين له، اجتماعي في علاقاته بالكثيرين يحضر مجالسهم ويحضرون مجلسه فيجعل من جلسته معهم ساعات أنس وقبول ، كما أنه متواضع جدا في تعامله، مما يجعل لشعره الذي يحفظه عديد من أهالي بلدته ورقة قبول لأحاسيسه العفوية التي لا تمس مشاعر الآخرين بأي جرح أو يفهمها أحد على غير وجهة الشاعر ومراده.لقد افتخر بقصائد الشاعر العديد ممن وجهت لهم سواء مدحا أو غزلا بريئا أو ثناء أو قصائد مراسلات وردود أو إشادة بأفعال طيبة. ومات الشاعر منذ أكثر من ثلث قرن ولا يزال يتردد في الأسماع صوته الذي طرق به مسامع أحبابه من أفراد مجتمعه الذين يقدرون له تلاحمه معهم في مشاعر الطيبة والود والبساطة ويعطر سمعتهم بكل ما هو جميل.