بقدر ماكانت الأدوية الكيميائية فتحاً علمياً ساعد الإنسان على الحياة الصحية وهزيمة مسببات المرض بسرعة وسهولة، إلا انها أصبحت كاسكين المسنونة ذات الشفرتين، تداوي وتعافي هنا وفي المقابل تدمر هناك حتى تفري الكبد قبل الكلى... كانت الأدوية في الماضي تعامل كالسموم فيؤخذ منها بقدر أقل من الحاجة، وما كان يستطيع الوصول إليها إلا أصحاب الاختصاص والحكماء من الناس، حتى أصبحت اليوم كعلب الحلوى يشتريها الصغير والسفيه والجاهل دون رقيب أو حسيب، وحتى أصبحت تجارة بيع الدواء والمعروفة بالصيدليات في كل شارع وفي كل ركن، وأصبحت تبيع الوهم وتروج لحياة تملؤها قوة الوحش وعنفوان الخيل وإلى شباب لا شيخوخة بعده وقوة لا ضعف بعدها، فأصبحت تجارة تدر الملايين من جيوب الموسرين وحتى المفلسين... دعوني أتحدث في تخصصي حتى لا أجيء بالعجائب، فلقد لاحظت كثرة المترددات على عيادتي بسبب اكتئاب عارض لم يختبرنه أو يجربنه من قبل، شيء يمكن وصفه ولكن لا يمكن تصنيفه عند المنصفين من الأطباء النفسانيين، فهو كالاكتئاب ولكنه ليس به، وهو قريب من القلق ولكنه أيضا ليس بالقلق، أول علاماته ألم في الرأس خصوصاً في منطقة الجبهة وبين العينين كأنه صداع توتري ولكنه أيضاً ليس هو، إحساس غريب بتقارب العينين من بعضهما، وبرودة في مقدمة الرأس ليس من السهل تدفئتها، وكسل ورغبة في المكث في الفراش تحت غطاء ثقيل، واستعظام صغائر الأحداث وتكبير سفاسف الأمور، والهرب من الحياة الاجتماعية والاعتذار عن الاجتماعات الأسرية، وتشتت الانتباه وعدم القدرة على التركيز وضياع الخشوع في الصلاة وقراءة القرآن، ربما استدعى ألم الرأس الرغبة في شده برباط طوال اليوم، ولأنني تعودت ألا اكتفي بتطبيق الأمراض على ما يتشابه معها من عوارض وأوصاف كما يفعل أصحاب القوالب الجاهزة، فقد لاحظت أن الكثير منهن قد مررن باستخدام دواء قوي يصرف لآلام الظهر، وهذا الدواء في حقيقته ليس دواء فعلياً للظهر على الحقيقة، رغم انه فعال جداً في إزالة الألم من واقع تجربة، ولكنه دواء نفسي عصبي يصنف على انه من مضادات الصرع والاكتئاب الخفيف، هذا الدواء يدخل إلى الخلايا العصبية ثم يقوم بدور الممثل على الجسم لكونه يشبه أحد النواقل الكيميائية في شبكة الخلايا العصبية في الدماغ، فيصدق المخ هذا الدواء ويتأثر به، فيحصل نوع من الاستقرار والانتظام والتوازن في الإشارات الكهربائية العصبية، وهذا جيد في حالة الصرع عافانا الله وإياكم، لكن استطبابات هذا الدواء زادت حتى أصبح يستخدم لمعالجة القلق العام، وأيضاً لعلاج الاعتلالات العصبية، ولآلام الأعصاب الشوكية والطرفية، ومع الوقت أصبح الأطباء يصفونه لكل مريض يشتكي من الدسك أو عرق النساء، حتى يرتاح المريض من لسع الألم، وهو في الحقيقة لا يعدو كونه مسكناً للألم حتى يتعود الجسم على تحمل الألم لوحده فيتأقلم مع الوضع الجديد، العجيب اني قرأت قديماً في إحدى المجلات الطبية أن حوالي ستين بالمائة من الشعب الأمريكي يشتكي من عرق النساء والتضيق العصبي في فقرات الظهر القطنية إلا ان الغالبية العظمى منهم لا يعلمون لأنهم متعايشين مع الوضع الجديد حتى اعتاد الجسد عليه، ولكننا فضلنا عدم الصبر على آلام فجربنا مخادعة المخ وقطع الشعور الحقيقي عنه لأجل الراحة، وهذا من حقنا حيث يهرب الإنسان دائماً عن أسباب الألم والتعاسة، ولكننا في المقابل أدخلنا إلى أجسادنا مواد كيميائية تلبس لباساً مزوراً لتخادع العقل وتتحكم في كهرباء الشبكة العصبية في المخ، فكان من الآثار الجانبية لهذا الدواء تولّد شعور بالكآبة والقلق والزهد في الحياة والرغبة في الانتحار خصوصا عند الشباب، وصداع توتري أشبه بلفحات البرد بين العينين، وكزّ على الأسنان وصرير ليلي، وخمول وكسل ودوخة، وهستيريا فرحية سرعان ماتنقلب إلى بكاء وكآبة، وأكثر مافي الموضوع من تهور هو جرأة أطباء الظهر على صرف هذا الدواء دون تنبه المريض إلى أن هذا الدواء دواء نفسي عقلي، وانه من الخطير جداً التفريط في جرعة من الجرعات أو قطع الدواء مرة واحدة دون تدرج في الانسحاب، مما يسبب نوبات من الكآبة وتقلب النفسية والقلق والصداع، ولكن من يهتم، وعلى دروب الخير نلتقي...