من الطبيعي أن يكون المرء مسؤولاً عن التصرّفات التي تصدر منه عن قصدٍ وإرادة، لكن هل يكون مسؤولا عن التصرّفات التي تحصل منه بشكل عفوي، أو مسؤولا عن تصرّفاتٍ لم تصدر منه أصلاً؟ إنّ الواقع اليومي للحياة يكشف لنا عن نماذج مُتعدّدة لرؤية العالم لدى شرائخ مختلفة من الناس، وهناك أمثلة يمكن استعراضها للوقوف على هذا النوع من المسؤولية التي يتورّط فيها الشخص دون قصد منه. ومن ذلك ما يُروى أنّ أحد التجار في القرية علم بأنّ واحداً من المزارعين يبحث عن حبوب قمح ليزرعها مع بداية الموسم، فما كان منه إلا أن اشترى كميّة منها وتركها في دكانه. وظل ينتظر قدوم ذلك المزارع لكي يشتري منه لكن موسم الزرع وصل ولم يأته أحد يسأل عن هذه الحبوب، فذهب إلى المزارع بنفسه وسلّمه أكياس حبوب القمح وطلب منه قيمتها. استغرب المزارع من تصرّف التاجر وأوضح أنه لم يطلب هذه البضاعة وليس لديه نيّة للزراعة هذا العام؛ فأصرّ التاجر بأنه لم يجلب القمح إلا له وأنه مسؤول عن ذلك. وبعد جدالٍ قرّر التاجر الذهاب إلى القاضي لشكوى المزارع لأنه خدعه بإيهامه أنه سوف يزرع محصول القمح هذا الموسم ثم غيّر رأيه بعد فوات الأوان. وعند القاضي اتّضح أنّ التاجر يُخمّن تخمينات تجاريّة معينة ثم يُصدّقها ويعمل من خلالها، وقد نجحت معه هذه الطريقة في بعض الأحيان ولكنها فشلت مع هذا المزارع الذي نجا من مسؤولية مفترضة عليه وهو لايعلم عنها. وقد مرّ معي قبل سنوات أن جاء شاب يُطالبني بسداد مهر زواجه، فاستغربت ظناً منّي أنه يريد مساعدة مالية معقولة تُعينه على سداد المهر البالغ ستين ألف ريال، لكنه أوضح لي أنه يطالبني بالمبلغ كاملا. وبعد أن تأكّدت أنه لا يمزح قلت له: لستَ مضطراً للزواج ما دمتَ غير مستعد له، والاستعداد المادي أمرٌ مهم لإقامة بيت زوجي. لكنه لم يقتنع وأصرّ على مطالبتي بالمهر لأنني أنا السبب في زواجه وعليّ أن أتحمّل المسؤولية. وسألته أن يُوضّح لي الأمر، فذكر أنه حضر عندي ذات مرّة وكان هناك مجموعة من الضيوف، ويتذكّر أنني علّقت على موضوع الزواج بكلام طويل لا يذكر منه إلا أني قلت له «عقبالك الزواج»؛ وأنه منذ ذلك اليوم وهو مؤمن بأنني كنت أحثه على الزواج ويعتقد أني سأكون سعيداً وأدفع له المهر بلا تردد لأنّه حقّق رغبتي. فأوضحتُ له بصراحة أنني غير مهتم بأموره الخاصّة وأنه وحده مسؤول عن حياته وعن تدبيرها بما يراه عقله، وليس عندي أيّ رغبة لها علاقة بشؤون الآخرين الخاصة، وانتهى الأمر عند هذا الحد ولا أعلم ماذا جرى له بعد ذلك. والغريب أنّ من يتابع هذا الموضوع يجد أنّ تحميل المسؤولية للغير ثم لومهم على ذلك يمكن أن يحصل في كل الحالات، فهذه قصّة يرويها لي أحد الزملاء وفيها أنه زار ابن عمه المسجون بسبب وجود مواد مخدّرة في حوزته، وكان هدف الزيارة الاطمئنان على هذا الشاب ومعرفة مشكلته من باب البرّ والصلة وإلا فإنّ الرجل مشغول ولديه التزامات كثيرة. يقول الراوي: حينما زرته وسلمت عليه بادرني باللوم والتقريع زاعماً أنني السبب فيما هو عليه وأنني ورّطته في هذا المسلك الأعوج وراح يبكي ويلعن ويشتم. ويُضيف بأنّه حاول تهدئته لكنه لم يفلح، وفهم منه أن هذا اللوم هو بسبب عدم نصحه النصيحة الصادقة بالابتعاد عن رفقاء السوء ولم يأخذ بيده إلى المعالي بل تركه حراً حتى وقع في براثن هذه المخدرات. ويقول لي الراوي: إنه يتذكّر قبل سنوات أنه كان في زيارة لعمّه في منزله ولم يجد أحداً من أبنائه عنده وأثناء خروجه دخل هذا الشاب فسلّم عليه وسأله عن أحواله وعن دراسته، ففرّ في وجهه وصرخ وهو يقول لابن عمّه: «ما أنت وصيّ علينا، الله لايحوجنا لك». ومن الواضح من هذه القصّة أنّ الشاب سوف يُعلّق شمّاعة اللوم على ابن عمّه في كل الأحوال: إن نصحه مثلا فسوف يلومه بأنه يستصغره ويشك في سلوكه، وإن تركه على حاله اتّهمه بأنه السبب في عدم الأخذ بيده. وثمة أسئلة تدور في الذهن حول هذا السلوك، منها سؤال حول سمات الشخص اللائم، وهل يمكن أن تأخذ إطاراً عاماً تدور حوله مجمل تصرفات الشخصيّة؟ والواقع أننا نجد صاحب هذه الشخصية يتنصّل دائماً من المسؤوليات ويلصقها بغيره ويرتاح حينما يجد نفسه بريئاً من أي شيء؛ فإذا لم ينجح في الدراسة فالسبب هو أنّ المعلم لايحسن الشرح أو أنّ والده يتأخّر في إيصاله للمدرسة، وإذا قصّر في العمل فالسبب هو أنّ رئيسه متصلّب، وقد يُطلق تبريرات عموميّة من مثل: بيئة العمل لاتُشجّع أو النظام عقيم. وهكذا، نجد أنّ مجمل سلوك بعض الأفراد يتّخذ من الآخرين مرجعاً يعتمد عليه في نسبة الإخفاق، ولسنا بصدد دراسة أسباب نشوء هذا النمط من الشخصيات. والسؤال الآخر هل هناك شخصيّات لديها القابلية لاستقبال اللوم وتحميلها مسؤوليّة لا دخل لها فيها؟ ومن تتبّع هذا السلوك، يمكن ملاحظة أنّ هناك بالفعل تقصّداً لأشخاص معينين وتحميلهم المسؤوليّة إما بسبب صلة القرابة أو بسبب السلطة (المال، المنصب) أو بسبب الغيرة منهم أو بسبب العلاقة العاطفية معهم (ود، بغض). وأتذكّر أنّ أحد كبار السنّ الذي له في قومه مكانة، كان يزور أقاربه ويطمئن عليهم وقد ينشغل عنهم بعض الوقت لكنه لم يتوقّف عن زيارتهم. ومع ذلك لم يسلم من اللوم: فهناك -من جيل الشباب- من استنكر عليه كثرة الزيارات لأنهم وجدوا فيها نوعاً من التلصّص على الناس وكأنّه يُشبع حبّه الذاتي للاطلاع لمعرفة أسرار الآخرين، وأنّ هدفه من تلك الزيارات هو إشعارهم بأنّ له سلطة عليهم. وفي المقابل هناك -من جيل الكبار- من يلومه إذا انشغل أو تأخّر بأنّه لا يهتم بجماعته ولايسأل عنهم وكأنّه مُتكبر عليهم أو يراهم في منزلة أقلّ. والواقع، أنه كان يقوم بتلك الزيارات للاطمئنان وصلة الرحم والتواصل معهم عن مودّة وحبّ ولم يكن له هدف ذاتي من وراء عمله. ولهذا، فإنّ على المرء العاقل أن يعمل ما يراه صواباً وليس عليه أن يضمن تفسير أعماله عند الجميع. وللحديث بقية..