كما قلنا فإننا لا نستطيع تحميل المجتمع مسؤولية هذا الجفاء الذي حصل بينه وبين السينما، فالمجتمع لم يفعل إلا ما هو متوقع تماماً، إذ وجد أمامه أفلاماً رخيصة وبالتالي هو سلك الطريق السهل والواضح والمريح والذي هو تحريم هذه الأفلام . إذن من نلوم هنا؟ اللوم سيتجه بالتأكيد إلى أوائل من تعاملوا مع السينما، إلى التجار الموزعين والمنتجين الذين ذهبوا إلى مصر ومن هناك جاءوا لنا بالسيئ من الأفلام وكل تفكيرهم ينصب على الكسب المادي ولا شيء غيره، فلم يكن هناك اعتبار للفن ولا لقيمة السينما، إنما لهاث خلف المال حتى لو كان على حساب القيم والأخلاق.. في السابق، وقبل أن يأتي نظام المطبوعات الجديد، كان توزيع الأفلام يتم بطريقة فوضوية للغاية، إذ كان لكل محل فيديو الحق في استجلاب ما يريد من أفلام من المصدر مباشرة، وكأنه «وكالة» بذاته، فكان كل صاحب محل فيديو يذهب إلى مصر أو إلى غيرها من البلدان المجاورة ومن هناك يبدأ بالبحث عن أفلام - أي أفلام - ثم يأتي بها إلى السعودية، وبعد أن يمررها على وزارة الإعلام كي يأخذ تصريحاً بتوزيعها، يبدأ ببيع هذه الأفلام في محله.. هذا الأمر جعل من مسألة النشر والتوزيع مسألة فضفاضة خاضعة بالدرجة الأولى لذوق ورغبة صاحب المحل، فهو إن كان لا يهتم إلا بالمادة، وإن كان جاهلاً بالسينما كقيمة ومفهوم، فإنه حتماً سيبقى أسيراً للتصورات الواضحة عن السينما وسيبدأ بالتركيز على ما يفهمه هو، أعني أفلام الأكشن السطحية، وهذا تفسير - ربما - لحالة الإغراق التي واجهها السوق السعودي في الثامنينات تحديداً يوم أن كان متخماً بأفلام الكونغ فو وأفلام الحركة الساذجة التي لا تقدم صورة حسنة عن السينما.. أمر سلبي آخر أدى إليه هذا النظام المفتوح لاستيراد الأفلام، هو أنه جعل الفرصة مواتية لنشر وتوزيع الأفلام الجريئة والفاسدة، وذلك لأن لكل محل فيديو أجندته الخاصة ولكل واحد منها أفلامه الخاصة، وبالتالي فإن الرقابة عليها تبدو صعبة، بل مستحيلة، فالمراقب حين يذهب إلى محل الفيديو، هو يذهب وليس في ذهنه تصور عن جميع أفلام هذا المحل، ولا عن قائمة الأفلام التي تحضر وتمنع في السعودية قاطبة، إنما هو يعتمد على التخمين وعلى التفتيش الانتقائي، وهو ما جعل أصحاب المحلات يغامرون بجلب هذه الأفلام الوضيعة دون تمريرها على رقابة وزارة الإعلام وذلك لعلمهم أو لثقتهم في أن احتمالية اكتشافهم هي محدودة جداً إن لم تكن معدومة.. وهذا يفسر ظاهرة الانتشار المهول للأفلام العربية ذات التوجه الجنسي الغرائزي الهابط في الثمانينات، وهذا الانتشار هو الذي أكد خوف المجتمع المسبق من هذه «السينما» وبالتالي أكد «حرمتها» في نظره.. وإن انتشاراً لهكذا نوع من السينما سيحقق الكسب المادي فعلاً لأصحاب تلك المحلات، لكنه في الوقت نفسه سيضر بسمعة السينما ويجعلها قريناً لكل ما هو فاسد، وهو ما حدث فعلاً، إذ ألبست السينما لباس الفساد والانحلال وباتت في ذهن المجتمع رمزاً شريراً سيدمر حتماً «هويته» وأصالته.. والمجتمع لا يلام على موقفه، واللوم، كل اللوم، يقع على هذا «التاجر» الذي رغب في المادة قبل أي شيء وقبل كل شيء، حتى الأخلاق، وقد تحقق له ما أراد، لكنه بعد كل شيء ساهم في تعزيز نظرة المجتمع السلبية للسينما.. وإني لأسال: ماذا لو اعتنى أحد هؤلاء التجار بالسينما الإيطالية مثلاً؟ مذا لو أنه جاء إلينا بتحف تيار الواقعية الإيطالية بكل ما تحمله من قيمة على المستويين الفكري والأخلاقي؟ ماذا لو تم ذلك ورأى المجتمع هذه السينما الإنسانية النظيفة قبل أن يعرف أي شيء عن «السينما» بشكلها العربي والمصري؟ وكيف ستكون حالنا مع السينما لو أننا عرفنا تحفة إيطالية خالدة اسمها «سارق الدراجة»؟ ألسنا سننظر لهذا الفن العظيم بنظرة أخرى مختلفة؟ ألسنا سنحترم السينما وسنراها بمثابة الامتداد الطبيعي لبقية الأصناف الفنية كالرواية والشعر؟ بلى إني أجزم بذلك.. وأجزم أكثر أنها ستصبح جزءاً هاماً من التركيبة الثقافية السعودية وبشكل يجعلنا لا نستغني عنها كما هي الحال في المجتمعات الأخرى.. لكن «تاجرنا» الحبيب لم يشأ أن نعيش أجواء الجمال هذه، مع السينما الحقيقية، إنما قام بوأد فكرة «السينما» من جذورها.. وذلك من خلال تعامله البغيض معها وتركيزه الممجوج على الأفلام الرخيصة.