من خلال المقابلات التي أجريت مع أصدقاء الشاب جوهر تسارنييف المتهم في تفجيرات بوسطن ومع جيرانه وزملائه يتّضح للمتابع أنه شخص مرح ومحبوب وله قبول عند الجميع. فقد جاء إلى أمريكا وهو طفل لايتجاوز عمره الثمانية سنوات واختلط بأقرانه وعاش وتعلم بينهم، وتعرّف على عاداتهم وسلوكهم وتكيّف معهم، ويبدو أنه يتصرّف ويتحدّث ويتعامل كما لو أنه أمريكي الأصل والطباع. والواضح أن له أصدقاء كثراً وهو منسجم معهم ويحضر احتفالاتهم ويتصرّف معهم كما لو أنه منهم، وظل يمثل دور الشخص البريء الذي يُساعد الضعفاء ويتفاعل مع المحتاجين ويُحب الأطفال، واستمر في تمثيل هذا الدور حتى آخر لحظة قبل القبض عليه حينما أرسل رسالة إلى والده يخبره فيها أنه بريء مما حصل. هذا الوجه الجميل الذي نراه في شخصية جوهر وقد تفاعل كثير من الناس معه وتعاطفوا مع قضيته فمنهم من أنكر أن يكون هذا الوجه الطفولي البريء قد قام بعمل إجرامي فظيع، ولكن حينما وجدوه يهرب مع شقيقه تيمورلنك ويقتلان شرطياً وهو جالس في سيارته ويطلقان قنابل وأعيرة نارية، وبعد أن قُتل تيمورلنك بقي جوهر مختبئاً في مكان ما واحتفظ بسلاح معه حتى تم العثور عليه. ومع ذلك لم يفقد بعض الناس تعاطفهم مع جوهر وحمّلوا المسؤولية كاملة لشقيقه بأنه هو الذي ورّط جوهر في هذه الجريمة وأرجعوا ذلك إلى صغر سنّ جوهر وجهله وانقياده لشخصية شقيقه القوية. وبعد القبض عليه والتحقيق معه وإقراره بالجريمة وكشفه عن النية لعمل تفجيرات أخرى في نيويورك وقد برّر ذلك بأنهما قاما بالتفجيرات من أجل «الدفاع عن الإسلام»، ثم أوضح لاحقاً أن عملهما هو «عمل جهادي» مبيناً أن والدته كانت دوماً تتحدث عن الجهاد ضد الكفّار وتُعلي من قيمته في نفوس أبنائها. إن هذا النمط من الشخصيات المتناقضة يبدو عصياً على الفهم في الثقافة الأمريكية، ليس لعدم وجود هذا النوع من الشخصيات لديهم، ولكن لأن أغلب الناس يتصرّفون وفق منهج موحّد وواضح، والناس يفهمون هذه الشخصية على ماتبدو عليه أمامهم؛ ويُصنّف الشخص المتناقض على أنه معتل نفسياً. ولكن الأمر يكاد يكون مختلفاً كلياً في الثقافات الأخرى وخاصة الثقافة الشرقية؛ فبعض الشخصيات التي تعتبر سوية وسليمة في نظر المجتمع نجد أنها تعيش صراعات داخلية متناقضة، فهناك من يعيش في داخله تضارب بين القيم الأخلاقية وبين المصالح الشخصية، وهناك من يجد تنازعاً داخلياً لديه بين ما يُؤمن به وبين ما يمارسه، ودائماً مانجد اختلافات بين القول والعمل؛ وتمتلىء أدبياتنا بالأمثال والحكم والقصائد التي تمجّد العمل على حساب القول من منطلق أنّ «ماكلّ من قال قولاً وفى». إن شخصية جوهر مفهومة إذا وضعناها في سياقها الثقافي الشرقي؛ فهو يعيش في حالتين متناقضتين تماماً ولكن كل حالة تسير في خط واتجاه مختلف؛ فلا تتقاطع هاتان الحالتان، وإنما تسيران بشكل متوازٍ؛ ولهذا قد لايكتشف الشخص نفسه مقدار تناقضه. فنجد أن جوهر يعيش في إحدى حالاته (كما هو ظاهر) عيشة الشاب المرح اللطيف المحبّ للحياة والمقبل عليها بعنف من خلال ممارسة اللعب وحضور الدروس والمشاركة في المباريات والألعاب وإقامة الصداقات وحضور الاحتفالات والضحك والمرح مع الجميع؛ وهذا السلوك هو الذي يمارسه خارج المنزل وعلى مرأى من الناس. ولكن ماذا يدور في ذهن جوهر حينما يجلس مع شقيقه أو مع والدته؛ ربما يدور حوار وتفكير مختلف تماماً عن السلوك الظاهر. ومن المتوقع أنّ هناك تبرّماً من الحياة في أمريكا وعدم قناعة بها وازدراء لكثير من الممارسات التي تحصل في الحياة الأمريكية. وفي هذه الظروف النفسية والعقلية العصيبة التي يمرّ به الفرد أو الأفراد من عدم انسجام مع المجتمع يكون استحضار الدين بمثابة الدفاع عن النفس؛ وفي هذه الحالة يلوذ الشخص بالغيبيات على حساب إصلاح الواقع، وهنا ربما يأتي موضوع تكفير المجتمع والحكم عليه بالانحلال وربما تكون هناك رغبة في الانتقام من هذا المجتمع الذي يبدو غير موافق لأهوائهم. وإذا علمنا أن ظروف العائلة كانت صعبة، فالأب لم يستطع الانسجام مع الحياة الجديدة في أمريكا وظل يشعر بغربةٍ حتى قرّر العودة إلى بلاده؛ والأم خرجت من أمريكا وعليها جنحة تتعلق بأخذ بضاعة من متجر لم تدفع قيمتها؛ والشقيق تيمورلنك متزوج من امرأة أمريكية تبدو غريبة عنه لايشاطرها أفكاره ولايشعر نحوها بالود وظل يعنفها ويضربها؛ زد على ذلك أنه عاطل بلا عمل ويمضي وقته في مراقبة ابنته الصغيرة مما زاد عليه الضغوط حتى تفاقمت إلى درجة التفكير بالانتقام من المجتمع. وقد وجد ملاذه في الهروب من الواقع عن طريق التمسّك بالغيبيات من منطلق أن الله قد وهب له الآخرة وعليه ألاّ يأبه بهذه الدنيا وأن يزهد فيها. ومن خلال المعلومات عن هذه العائلة، يبدو أن معرفتهم بالدين الإسلامي ليست عميقة، فقد اعتمد تيمورلنك على بعض المقاطع المبثوثة في الإنترنت لكي يفهم معنى الجهاد؛ وقد اكتفى بمعرفة أن ذلك يعني قتل الكفار لكي يحظى بالجنة. أضف إلى ذلك أن تبرير جوهر للجريمة بأنه دفاع عن الإسلام يدلّ على سذاجته وضحالة تفكيره. وهذه العوامل مجتمعة تجعل شخصية جوهر تعيش واقعين متناقضين في الوقت نفسه، واستطاع أن يتكيّف مع هذا الواقع بأن يتبنّى الحالتين معاً، فيظهر بشخصية مقبولة يُريدها المجتمع ويُبطن شخصية أخرى لاتظهر إلا عند أسرته. وقد آن الأوان مع التحقيقات أن يكشف جوهر عن حقيقة تلك الشخصية العنيفة التي كان يضمرها في داخله وظلت محجوبة عن أعين الناس. جدير بالذكر أنّ هذه الشخصية المزدوجة موجودة في مجتمعاتنا بكثرة وبمستويات وأنماط متعددة، قد يحسن الحديث عنها في زاوية أخرى في المستقبل.