بعد التفجيرات الأخيرة التي حدثت في لندن شعرت ببعض الاختناق فقد أصبحت أرى المدينة في تشابكاتها الوظيفية ورأيت أنها تتجه إلى التعقيد غيرالانساني، فنحن لسنا بحاجة لمدن تشبه المصانع في عملها، نحن بحاجة إلى تلك الفضاءات الإنسانية التي تشعرنا بالحياة (1) يبدو أن حالة القلق الأمني صارت تطاردنا نحن المسلمين والعرب داخل مدننا وخارجها، فقد قلت في نفسي هل ما أشعر به هو حالة انسانية عامة أم أنها حالة خاصة بنا، ووجدت أن طوقاِ حديدياِ يحكم حول رقابنا فقد اصبحنا كائنات منبوذة دولياً، فلايوجد مدن تفتح ذراعيها لنا إلا على مضض، وعندما نحط في أحدها تزداد حالة الترقب الأمني، وكأننا «قنابل موقوتة»، إحساس عجيب صار يلازمنا فنحن لم نعد كباقي البشر الذين يحق لهم ممارسة الحياة المدينية بشكل طبيعي. اصبحنا نشعر بالحرج من كل النظرات التي تحيط بنا، وكل حدقات العيون التي تتسع فجأة عندما تعرف أننا قدمنا من المشرق، غير المرحب به. هوس و«فوبيا» غريبة تصاعدت حدة حتى أننا لم نعد نشعر بمتعة التواصل مع الاخر التي قد يتيحها لنا السفر. أصبحنا نشعر بحصار نفسي يطوقنا في كل عاصمة نحط فيها(خارج الشرق العربي الذي مدنه أصلاً محاصرة نفسياِ وبصرياِ). لقد أصبح من السهل أن يطلق قادة الغرب القوانين التي تحاصرنا وربما تحصرنا داخل مدنهم (ألم تجمع أمريكا كل اليابانيين-الأمريكيين داخل كنتونات أشبةبالسجون الكبيرة أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي الآن تحاصر سكان أمريكا الأصليين داخل مقاطعات متخلفة جداِ بحجة أنهم يريدون ذلك) ولاتعتبر ذلك خرقاِ لحقوق الأنسان (إذ يبدو أننا أصبحنا في نظرهم أقل من الانسان بدرجة وربما بدرجات، الله أعلم. وقرار الحكومة البريطانية الأخير بتشكيل وحدات لمراقبة المسلمين في بريطانيا لرصد المتطرفين هو نوع من الحصار النفسي الذي يجعل من كل مسلم يعيش أو يزور بريطانيا «مباحاً» لرجال الأمن. (2) أذكر أنني زرت مدينة إيطالية قبل عامين وعندما وصلت للمطار تفاجأت بكلاب بوليسية تحيط بي، وكأني أحمل «حزاماً ناسفاً» وشعرت بالحرج كوني كنت مدعواً من قبل جامعة هناك لإلقاء بعض المحاضرات «المشرقية» وكان من يستقبلني ينظر لي وانا افتش هكذا ولايستطيع التدخل. حالة دائمة من الاستفزاز الذي لانستطيع أن نفعل معها شيئاً. هذا الحصار النفسي صار يدفعني إلى التباطؤ وحساب كل حركة (فلم يعد في الحركة بركة)، والموازنة بين الارباح والخسائر في كل زيارة اقوم بها، ويبدو أن هذه الهواجس هي جزء من الحصار المديني النفسي الذي أجده ينمو بيننا حتى أني بت أشعر أنه سيأتي اليوم الذي سنحبس أنفسنا في بيوتنا. انه عصر جديد من الحدود الجديدة للمدن التي سترسم خرائط «جيو اجتماعية» تتوزع فيها المدن إلى نقاط حمراء وأخرى خضراء حسب من يسكن تلك النقاط. ولن استغرب في هذه الحالة أن يطالَب المسلمون أن يكون لباسهم مميزاً حتى تتعرف عليهم وحدات الأمن الأوربية وأن تصدر قوائم دورية لكل المسلمين في أوربا حتى يتم حصرهم بشكل دقيق ولا أبالغ عندما أقول أنني أشعر أنه سيأتي يوم يطالب فيه كل مسلم يعيش في أو يزور أوربا أو الغرب بشكل عام بشهادة حسن سيرة وسلوك. (3) قلت في نفسي «لعله خير» فقد يجعلنا هذا «الحصار المديني» نعيد بعض حساباتنا وقد يدفعنا إلى اكتشاف «الشرق العربي» بدلاً من الهجرة الشمالية التي لم تعد مريحة كما كانت في السابق. إذن لنعد إلى الشرق أو لنبدأ بهجرة استكشافية نحوه، فموسم الهجرة إلى الشمال أصبح ثقيلاً و«مريعاً» وهي فرصة حقيقية للعودة للذات، فصورتنا تزداد سوءا ولا نستطيع تحسينها في الوقت الحالي، ولا أريد أن « انظر» و«ابرر» مايفعله البعض للإساءة الدائمة لصورتنا، فهذه حقيقة يجب علينا مواجهتها، وأذكر أنني عندما كتبت في الأسبوع الفائت عن «فضاءات لندن المختلفة» واجهت هجوماً (مباشراً ومبطناً) من البعض كوني لم انتقد مايفعله الغرب بنا وأنه السبب الرئيس في تصاعد الارهاب، ومع أنني أقر أن هذه حقيقة (أي أن الأرهاب في جزء منه هو ردة فعل لسياسة الغرب معنا) لكنني مؤمن بأن التغيير يبدأ من الداخل أي أن الغرب له مصالح في إيصالنا لهذا الوضع الذي نحن عليه وقد حققنا للغرب مايريد، ولن يتغير الوضع ابداً طالما أننا سنظل نلوم الغرب، فلنلم أنفسنا اولاً ربما يأتي الفرج. ومع ذلك فإنني لا أرغب في التحدث في السياسة بل عن المدينة وحصارها لنا، فما عاد لنا فضاءات كثيرة للمتعة وما عاد لنا «فرص مدينية» للتجربة، فنحن مقبلون على المزيد من الحصارات «النفسية والفيزيائية» ويبدو أن كثيرا من الدوائر تضيق علينا، فماذا نحن فاعلون؟ (4) أجد أنني كثيرا ما أضع تفاسير متعدد للمدينة وحدودها، فتارة أرى فيها «فيزياء» يغمرني ويحاصرني ويصنع الحدود البصرية التي أعيش فيها، وانا هنا غالباً ما أبحث عن توسيع تلك الحدود فتجذبني كل الفضاءات المفتوحة واستعيض بالبشر عما يحدده الحجر لي من مناظر قد تكون خارج إطارالمكان نفسه، فالصورة المشاهدة قد تبحر بنا في التاريخ وهي متعة شخصية أمارسها لكسر الحصار المادي للمدينة ومع ذلك فإن مدننا المعاصرة صارت تضيق علينا بفيزيائها المتراكم الذي لم يدع لعيوننا ومسامعنا وحركتنا خيارات كبيرة إلا أنني شخصياِ أحاول أن أتجاوز شعوري بأن طرقات المدينة شبكة كبيرة تحاول أن تصطادني وتأسرني في سجنها للأبد. ومع ذلك فلم تكتف مدننا « المشرقية» بهذا الهم الفيزيائي الخانق بل زادت عليه حصاراً «خرسانياً» فرضه الارهاب المعاصر. انه حصار تضيق معه الانفاس لكنه مقدور عليه مقارنة بشعورنا أن المدينة «متاهة نفسية» هنا أشعر بصدري ينقبض رغم سعة المدينة.أحياناً وانفتاحها، حالة من الضيق الدائم، حدود «بشرية» تدفعنا دائماً للخارج، « خارج الدائرة المدينية الأنسانية» حدود المدينة النفسية أشد قسوة وحصارها النفسي غير انساني، لأنها ببساطة تمثل حدوداً «عنصرية» تفرق بين البشر وتصنفهم إلى طبقات عدة حسب اللون والعرق والدين وحتى الحالة المادية.انه سجن متحرك يدفع الإنسان إلى الشعور بالنفور من الوسط المديني الذي يحيا فيه، هذا الحصار المديني النفسي هو ما تشعر به الآن عندما نزور مدينة غربية، فنحن مصنفون حسب عرقنا وديننا على أننا « كائنات يجب الحذر منها» تصاعد الحدود الفيزيائية والنفسية للمدينة لم يعد يطاق خصوصاً في حالتنا المشرقية، وهي حالة تحاصرنا فيزيائياً في الداخل ونفسياً في الخارج، حتى أننا صرنا نقول «أين المفر». (5) بعد التفجيرات الأخيرة التي حدثت في لندن شعرت ببعض الاختناق فقد أصبحت أرى المدينة في تشابكاتها الوظيفية ورأيت أنها تتجه إلى التعقيد غيرالانساني، فنحن لسنا بحاجة لمدن تشبه المصانع في عملها، نحن بحاجة إلى تلك الفضاءات الإنسانية التي تشعرنا بالحياة. صرت لا استغرب تلك العاطفة التي تغمرني عندما أتوقف في طريق عند قرية ساكنة أو مجموعة بيوت متواضعة فقد ملأ ضجيج المدينة بصري وعقلي ولم يترك لي فرصة لممارسة الحياة الهادئة التي كنت اعيشها أيام الصبا. على أنني اعود وأقول هل هذه المشاعر حقيقية أم أنها نتيجة لضغوط الحصارالمديني الجديد الذي قلص من فرص «حياة المدينة الطبيعية؟» وهو تساءل في محله لأن من يجرب الحياة الصاخبة قد لايستطيع السكون مرة أخرى على أنني عندما أجد بعض القرى وقد تحولت إلى مدن صغيرة أشعر بالحسرة فما عاد هناك مكان نهرب إليه، فالسكون مطلب ولو بشكل مؤقت. كما أن دخان مدينة الضباب، هذه المرة فرض علي الحصار من نوع آخر، فقد كنت أحياناً أهرب من مدننا الكبيرة الممتلئة بكل شيء إلا ما يشعرنا بالحياة، إلى بعض المدن الكبيرة التي تعيد إلينا بعض الرغبة في ممارسة دورنا الانساني، لكني هذا العام اثرت البقاء في الديار، فكل المدن «محاصرة» وصحراؤنا في الصيف خانقة، وشعرت بحصار «بيتوتي» يحبسني في دائرة ضيقة قد يقول البعض اني حبست نفسي بإرادتي وأنه مازال هناك متسعاِ كبيراً للحركة، وانا أقول «نعم » انه حبس بإرادتي لأني صرت أرى المدن متشابهة، فكلها تعاني من حصارأمني، وكلها مدن وجلة وخائفة لا تثق في أحد وتترقب«الضربة القادمة»، وهذا القلق الذي يحول حياتنا إلى ما يشبه «الحرب الباردة، افقدني متعة «ممارسة المدينة». (6) صرت أرى لندن وقد تداخلت فيها الأسوار «الأمنية» وتشابكت فيها القيود التقنية وتخيلت كيف يمكن للحياة أن تستمر في هذه المدينة لو فعلاً حدث ما تخيلت، لكنني سرعان ما نفضت عني هذه الخيالات خصوصاً بعد أن كشفت « سكوتلانديارد» عن هوية من قام بعمل التفجيرات فهناك سور أمني تقني يطوق هذه المدينة المكتظة فقد حلل رجال الشرطة الاف أشرطة الفيديو وقدموا الخاطفين للجمهور في أقل من اسبوع وصور تفاصيل العملية، انها خارطة أمنية دقيقة لا يشعر بها أحد ولا تضايق من يسكن المدينة لكنها قادرة في نفس الوقت على رصد أدق التفاصيل التي يمكن أن تحدث في هذا الفضاء الانساني مازلت أذكر انتقادي لثقافة «الحجارة الاسمنتية» التي اكتظت بها مدننا، فقد أصبحنا نشعر بهاتحصرنا في كل مكان خصوصاِ مع تزايد وتيرة العمليات الارهابية، ومازلت أذكر أنني قلت أننا بحاجة إلى خارطة أمنية «تقنية» نستعيض بها عن «الحجارة الاسمنتية» القبيحة، فهذه الخارطة مفعولها أقوى وأعمق وستمكننا من فهم «ثقافة الأرهاب» في بلادنا، لأنها ببساطة ستجعلنا نحاصرهم « تقنياً» لكني مازلت أرى في «القلق الأمني» حالة مدينية ليس لها حل، لأنه يحول من يسكن المدينة إلى كائنات لاتعرف الثقة في الآخر، فلندن التي ترفض «الحصار الفيزيائي» صارت تبحث عن الحصار النفسي التقني، إذ يبدو أنهم يرفضون المساس بشكل المدينة لكنهم لن يترددوا أبداً في محاصرة من لايرغبون في وجوده داخل مدينتهم وسوف يوظفون كل تقنياتهم من أجل تحقيق هذا الهدف، انه الحصار المديني الجديد كما ذكرت سابقاً وهو أشد ضراوة من «حصار الخرسانة » وأنا هنا لست متناقضاً إذ انني أبدو مع وضد «التقنية الأمنية» في نفس الوقت والحقيقة أنني مع التقنية الأمنية غير الموجهة ضد أحد (7) ومع ذلك فلا أريد أن أربط الحصار المديني بالأرهاب أو بالتطرف الذي يزيد من حالة القلق الأمني وما يتبع ذلك من صناعة حدود وبناء سدود داخل المدن، ولا أجد أن الحصار يمكن أن يقتصر على بناء الأسوار الأمنية التقنية، فالمدينة دائماً تصنع أنواعا من «الحصارات» الداخلية من أجل تنظيم العلاقات البشرية بين سكانها، فهناك نوع من الحصار الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يصنع مفهوم المدينة ويحقق فكرة المجتمع المديني. على أنها كانت أنواعا مقبولة من «الحصارات» كونها تعمل كمنظم ومقنن لحفظ الحقوق والواجبات داخل المدينة. أماالحصار المديني الجديد فهو نوع آخر من تضييق المساحة الفيزيائية والنفسية داخل المدينة. موجه ضد فئة من الناس يجعلهم يشعرون بالمدينة كسجن ثابت ومتحرك لا يستطيعون الخروج منه. انه عصر جديد سوف يؤدي إلى انطواء المدينة وتقوقعها ثقافياً واجتماعياً وربما سيصنع أطيافاً اقتصادية وتقنية داخلية. هذا الحصار الذي سيزيد من معاناة المدن الكبيرة على وجه الخصوص قد يدفعنا إلى البحث عن تعاريف جديدة للمدينة غير تلك التي تعاملنا معها في السابق.