رحلت عن عالمنا مارجريت تاتشر أو المرأة الحديدية. وعندما تغيب شخصية بهذا الحجم فإن الزمن يبدو للحظة كما لو أنه توقف ليفسح المجال للتأمل في الماضي ولف شريط الأحداث التي مرت في الأعوام الخالية. ولهذا رأينا قادة العالم وصحفه، منذ يوم الاثنين الماضي، وهي تنعى الراحلة وتتناول فترة حكمها بالتقييم والمراجعة. فتاتشر كما يرى المتحمسون لحرية السوق هي جان دارك. فهم يرون أن هذه السيدة الفريدة قد أعادت لبريطانيا عظمتها بعد أن كادت تصل إلى عتبة تسول المعونة من صندوق النقد الدولي. وفي هذا الصدد يتذكر مؤيدوها الجهد الذي بذلته من أجل تحرير سوق العمل وخفض معدل الضرائب على الدخل وتحرير سعر صرف الجنيه. أو بمعنى آخر تقليص دور الحكومة في الاقتصاد. أما خصومها فلم ينسوا عنادها وعدم لباقتها واندفاعها لتدمير قطاعات الاقتصاد البريطاني القديمة دون أن تبني أسساً قوية للاقتصاد الجديد. ولذلك يرون أنها قد تركت وراءها اقتصاداً يشك الكثير في كفاءته. وعلى ما يبدو لي فإن عبقرية تاتشر ما كان لها أن تتفتق لو لا ثلاثة أمور على الأقل. فأولاً هناك النظام البريطاني العريق في الإدارة. فهذا البلد هو المهد الذي استقى العالم منه، بما فيهم الولاياتالمتحدة، فن الإدارة الحديثة. ولذلك فلا غرابة أن تتطور في المملكة المتحدة ابنة بقال وتتبوأ فيه أعلى المناصب. أما الأمر الآخر الذي لعب دوراً كبيراً في حياة الراحلة فقد كان الدورة الاقتصادية. فمارجريت تاتشر لو جاءت في الستينات من القرن المنصرم لما استمع إليها أحد ولا تأثر بما تقوله الشعب البريطاني. ولكن هذه الشابة أتت في فترة كان الاقتصاد البريطاني يعاني فيها من إخفاق الحكومة في إدارته. فعملية التأميم الواسعة التي قادها حزب العمال البريطاني قادت إلى زيادة دور القطاع الحكومي في الاقتصاد. وهذه السياسة التي كانت ربما مناسبة بعد الحرب العالمية الثانية قد أدت في السبعينات من القرن المنصرم إلى انخفاض جدوى إدارة الاقتصاد. وهي على النقيض من المرحلة التي نمر بها حالياً والتي تتسم بفشل الأسواق. فمنذ الازمة المالية عام 2008 وحتى يومنا هذا ونحن نلاحظ أن السوق غير قادرة وحدها على تسيير أمور الحياة. ولذلك فإن مارجريت تاتشير ومن يناصر منهجها سوف يكون عليهم من الصعب البروز في مثل هذا الطور من الدورة الاقتصادية. ولا تفوت الإشارة هنا إلى العملية الديمقراطية التي تعتبر بريطانيا هي مهدها أيضاً. فبدون هذه العملية ما كان لحزب المحافظين الذي تتزعمه تاتشر أن يأتي إلى الحكم بعد أن أصبحت إدارة حزب العمال عبئاً على الاقتصاد البريطاني. فالدورة الاقتصادية والانتخابات يكملان بعضهما ويصححان أغلاط بعضهما البعض. وهذا ما لاحظناه في الولاياتالمتحدة عندما صوت الامريكان إلى أوباما بعدما قاد بوش الاقتصاد الى طريق مسدود. هذه إذاً، كما يبدو لي، هي أهم العوامل التي ساعدت مارجريت تاتشر على البروز والظهور على خشبة المسرح العالمي بهذه الشخصية الفذة المتميزة التي نعرفها. فهي كانت المرأة المناسبة في المكان والزمان المناسبين.