أخذته رعشة داخلية واضطراب عميق كاضطراب قاع البحر بالحيتان والمخلوقات البحرية الغريبة.. الإنسان يرتكب الجريمة، يذبح أخاه الإنسان.. ويحزن ويبكي لموت قطة.. ينفق ما يملك في جلسة، ويسرق أموال الغير خلسة. يثور، ويهدأ وتصفو نفسه. يغدر ويفي.. ينافق، ويصارح. يؤمن ويكفر، يحب ويكره. شعر بنوع من الضياع القاهر، وجد أن نفسه تنقبض وأن النوافذ داخلها تنغلق. فنفض رأسه وهزه هزاً عنيفاً كأنه يريد أن يطير هذه الأغربة السوداء من رأسه وراح يلقي نظرة على الرواية. الرواية ما تزال بجانبه. يده تقبض أطرافها وأصبعه في وسطها عند آخر صفحة قرأها. لقد عبثت بي هذه الرواية عبثاً منكراً، بل لقد عبث بي الراوي عبثاً منكراً. أين الراوي؟ لا أعرفه، لا أدري أين هو الآن، ربما أنه نائم ربما أنه يشاهد مباراة كرة قدم أو ملاكمة. ربما أنه يثرثر مع أحد معارفه أو أصدقائه، ربما أنه يقرأ جريدة، وربما أنه يعاني صداعاً، المؤكد أنه لا يعاني كما أعاني. من أنا؟ وما الرواية؟، من أنا؟ ومن المؤلف؟ ما علاقتي بهذا الإنسان المجهول المعلوم؟.. مجهول بالنسبة لي كشخص، ومعلوم بالنسبة لي كراوٍ. إنه محرك الرواية وخالقها وصانع تفاصيلها. هو الذي بناها، خطط لها: أحداثها، أهدافها، أفكارها، كل موقع من أرضيتها بناه وفصله كما يشاء. أشخاصها صنع وجوههم وألوانهم وعواطفهم وأزياءهم. بل صنع نفسياتهم، وتصرفاتهم حسب أنفاسهم. وصنع كلماتهم. بل خلق أسرارهم. صدقهم، وخداعهم وفضائحهم.. ما هذا؟ بل إنه وهذه هي الطامة الكبرى جعلني واحداً منهم أراقب حركاتهم وأعيش أمتع لحظاتهم وأتعسها. أفرح وربما أغضب حسب تحيزي وحسب ميولي ورغبتي. أدخل معركة وأشاهد أخرى. أتمنى النصر أو الهزيمة. ألوم على الغدر والخيانة أفتتن ببعض المشاهد والأشخاص وأنفر من البعض الآخر.. المؤلف حشرني قسراً مع شخوصه، ألزمني أن أكون واحداً من أفراد روايته.. كأنه يعرفني. كأنه يعرف قوتي وضعفي، غضبي وفرحي، انفعالي وهدوئي.. لماذا؟ لماذا كل هذا الضعف، لماذا هذه الحيرة، ولماذا الارتباك؟ ولكن لو قذفت بهذه الرواية دون أن أكملها فهل أكون قد قمت بعمل بطولي يرضي نفسي ويريحها من هذه الحيرة ومن هذا القلق؟ هل لو مزقتها صفحة صفحة أكون قد انتقمت من المؤلف الذي عذبني وجرجرني معه إلى هذه الطرقات والمفاوز والسهول والظلام والليل، والظلم والعدل، والحق والباطل؟ ولو واصلت قراءة الرواية هل أكون قد أعلنت يأسي وحيرتي وإفلاسي في العجز عن تحديد شخصيتي العائمة؟ ما هذا الاستفزاز الموجع؟ لو أعطيت نفسي فرصة لمزيد من التفكير والتعليل هل سأصل إلى حل؟ وسواء أحببت الراوي أو كرهته، صدقته أو كذبته. قرأت الرواية، أم أحرقتها، فهل هذا سينفي وجود الرواية ووجود المؤلف؟ هل أطفئ المصباح وأترك الظلام للنوم.. أم أقوم وأشعل النار وأسخن إبريق الشاي فقد يكون ذلك كله بفعل النعاس أو الصداع أو الخمول؟ * * * وفي منتصف الليل.. ولا يدري كيف حدث هذا.. كان عند آخر سطر من الرواية يطلق آهة موجعة بسبب هزيمة البطل!!