ويستمر النقاش حول مصير المعرفة البشرية في العصر الرقمي استكمالا لمقالة سابقة ركزت على مستقبل المعرفة البشرية فيما لو ضاعت أو تلفت هذه الكنوز سواء التي تختزنها وتتبادلها الأجهزة أو تلك التي لم تؤرشف رقميّا حتى الآن. الأمريكيون تنبهوا لهذا الأمر وبادروا منذ سنوات الإنترنت الأولى بمشاريع خزن واسترجاع محتوى الإنترنت سواء عبر مكتبة الكونغرس أو من خلال مشروع وطني غير ربحي ضخم باسم "ارشيف الإنترنت" تصدى مصمموه لأرشفة الإنترنت (archive.org) وقد انطلق المشروع بشكل رسمي منذ عام 1996 وبات اليوم مرجع الإنترنت الأهم لمعظم التراث الرقمي على الشبكة العالمية. وفي بريطانيا بدأت الحكومة مع مطلع هذا العام (2013) مشروعها الضخم لحفظ الذاكرة البريطانية الرقمية من خلال المكتبة البريطانية British Library ومعه أصبحت المكتبة ملزمة بتخزين كل مادة الكترونية بريطانية على الشبكة وإتاحتها للاطلاع والتداول. على المستوى العالمي حاولت اليونسكو دفع الدول الأعضاء لتبني مشاريع وطنية في عدد من المناسبات وصدر ميثاق اليونسكو لصون التراث الرقمي عام 2003 محذرا من عدم توفر "وعي كافٍ بمخاطر فقدان التراث الرقمي". ولكن يبدو أن المشكلات والصراعات والأزمات التي عصفت بالعالم خلال العقد الماضي جعلت مثل هذه المشاريع تأتي دائما في أدنى درجات سلم الملفات الوطنية لكثير من الدول. وهذا من بين ما توصلت إليه دراسة استقصائية أجريت عام 2009 حيث كشفت أن "القليل من الحكومات في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء أقدمت على اعتماد استراتيجيات لصون تراثها الرقمي". ومن هنا تجدّدت دعوة المنظمة الدولية في مؤتمر دولي عقدته في كندا نهاية 2012 ضمن ما بات يُعرف بإعلان فانكوفر حول ذاكرة العالم". أما في عالمنا العربي فكل ما سمعنا وقرأنا عنه هو مجرّد "نوايا" ولا يوجد حتى الآن مبادرة مركزية واضحة ولا مشاريع قُطرية مبشِّرة. بل تعجب حينما تجد المكتبات العربية التقليدية تتوسع (خراسانيا) لحفظ المزيد من النسخ الورقية للكتب والصحف وغيرها من المطبوعات ولا تجد في استراتيجياتها خطط أرشفة إلكترونية للتراث والإنتاج المعرفي الوطني الذي سيضيع يوما ما. الجهد الضعيف الوحيد الذي أُنجز في منطقتنا هو ما قامت به مكتبة الإسكندرية في مصر سنة 2002 حين وقّعت اتفاقية لاستضافة (مرآة) للأرشيف الأمريكي للشبكة العالمية الذي أضافت لمهامه نهاية 2007 مهمة أرشفة برامج محطات التلفزيون المصرية. ولا توجد حاليا معلومات مؤكدة حول مدى استمرار هذا المشروع في ظل الأوضاع المعقّدة في أرض الكنانة. والسؤال هنا: من يضمن للأجيال القادمة حقها في معرفة تاريخها وكنوزها؟ ومن يتصدّى لصيانة وحفظ منتجات الفكر العربي في العصر الرقمي خاصة مع وضوح تأثيرات الثقافات الوافدة وهيمنة الفكر القادم من وراء الحدود على مظاهر حياة الثقافية اليوم؟ ومن يحفظ لأجيالنا ذاكرة أمتهم في العصر الرقمي؟ * مسارات: قال ومضى: عظمة الأمم تُقاس بعبقرية ما تورثه للأجيال القادمة..