منذ أكثر من خمس سنوات، وتحديداً في 14/2/2008م نشرت في هذه الجريدة (الرياض) مقالاً بعنوان (العائدون إلى الله.. توبة المتطرفين). وهو مقال يحاول مقاربة التحولات المزعومة المخادعة لأحد أهم رموز الزمن الغفوي البائد. وكان المقال لحظة الكتابة مُكوّناً من جزأين، نُشِر الأول، بينما تعذر نشر الثاني في إبانه. ولكنهما الآن موجودان بشيء من الإضافات التفصيلية في كتابي (نحن والإرهاب) الذي ضم أغلب ما كتبته عن معركتنا الفكرية مع الإرهاب. يمكن ملاحظة أن عنوان مقال اليوم، هو قلب/عكس لعنوان المقال القديم. والتناص مع المقال السابق مقصود، إذ هو يحكي تحولات الأقنعة المخادعة التي جرى تناولها في المقال السابق، وهي التي يجري تبديلها في كل مناسبة؛ وفق الاستحقاقات الآنية لصراع التطرف مع الرؤى المدنية، وليس نزولاً على اشتراطات التحول الذهني، ذلك التحول الذي لم ولن يحدث؛ رغم كل ما يهتف به نجوم الفضائيات الغفويون من شعارات التسامح والاعتدال. كان خطاب الاعتدال بالنسبة للغفوي ضرورة مرحلة، كان قناعاً لمهمة خاصة في زمن خاص. فتهمة الإرهاب كانت تلاحقه منذ منتصف التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم. وزادت قرائن الاتهام حضوراً ووضوحاً فيما بعد الحادي عشر من سبتمر.. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فالشخصية المحورية التي تتلبس شعارات الاعتدال والتي حاول المقال السابق تعريتها بكشف الاستمرارية (استمرارية التأسيس لواقعة التطرف) التي يتضمنها خطابه؛ كمضمون نسقي كامن، نسق لا تزيده المزايدة على شعارات الانفتاح إلا وضوحاً هي الشخصية ذاتها في هذا المقال. إذن، الحديث هو عن شخصية تبدو وكأنها تتوب من تطرفها، وتتوب من توبتها! ولكن، مع فارق بسيط، وهو أن التوبة الأولى (وخاصة في تمظهراتها الدعائية) كانت تسير في خطها العام من التطرف إلى الاعتدال، بينما التوبة الثانية(وخاصة في مضمونها المضمر)، تسير من الاعتدال إلى التطرف، بل وإلى المنافحة عن الإرهاب، بدعوى المرافعة عن الحقوق والحريات! أيضا، هناك فارق آخر بين التوبتين، يكشف عن نفسه بوضوح. وهو يتمثل في أن التوبة الأولى كانت توبة كاذبة مخادعة، تمارس(التقية) فيما لا اضطرار للتقية فيه (وفق شروط الفقه التقليدي طبعا)، بينما التوبة الثانية كانت توبة صادقة فيما تعبر عنه في راهن القول؛ حتى وإن كانت كاذبة من حيث كونها( الشخصية النفاقية ) لم تتوفر على اعتدال حقيقي يصح أن تتوب منه. فلم يكن خط سيرها انتقالاً من التطرف إلى الاعتدال، ثم من الاعتدال إلى التطرف (كما هو ظاهر القراءة السطحية ، بل كان خطُّ السير يحكي رحلة الانتقال من التطرف المعلن إلى التطرف المضمر، ومن التطرف المضمر إلى التطرف المعلن مرة أخرى. ولا جديد غير الممارسة النفاقية في هذا السياق. على مدى أكثر من عشر سنوات وأنا أكتب هنا (جريدة الرياض) في مواضيع تتناول في مجملها الصراع بين الرؤى المدنية التي تتغيا التطوير بالانفتاح على التراث الضخم لفلاسفة التنوير، وبين الرؤى المنغلقة المتشددة، سواء ما كان منها صريحاً وصادماً، أو ما كان منها مراوغاً ومخاتلاً، على اختلاف في درجات التشدد والانغلاق. لقد كانت استراتيجية كتاباتي وخاصة ما يتناول قضايا التطرف والإرهاب تعمد إلى تأكيد استحالة الجمع بين طرفي الصراع في مكان واحد، وزمان واحد؛ لتحقيق هدف واحد، هدف يتمثل في خلق مجتمع تتضامن فيه منظومة الحريات مع منظومة الحقوق. أي أنني كنت أتعمد كشف خطابات التبرير والاعتذار التي كانت تمارس اللف والدوران، وأؤكد استحالة أن يتم الانتقال من مناخ العنف الغفوي الذي كان مسيطراً، بل وخانقاً، إلى مناخات الاعتدال على يد سدنة خطاب تزمتي في عمقه، خطاب يتخذ من المبادئ الأساسية للتقليدية الأثرية قواعد راسخة للانطلاق إلى فضاء التغيير المزعوم. لم أنطلق من تحليلي لهذا الوضع المأزوم من مجرد قراءات نظرية، تلامس الواقع المتطرف من خلال المقالة والكتاب، وإنما انطلقت من معايشة حية للخطاب المتطرف منذ باياته الأولى على يد رموز الغفوة المحلية، ولأكثر من عشرة أعوام. بمعنى أنني أنتمي من حيث البيئة والنشأة إلى مناخ يتسيد فيه خطاب التطرف الغفوي إلى درجة الهيمنة الكاملة، أي إلى درجة القدرة على قمع كل خطاب منافس بالقوة؛ من غير ما حاجة إلى مراوغة أو نقاش. أعرف امتدادات هذا الخطاب الغفوي، وأعرف خبايا جذوره الممدودة فيما وراء السطح البادي للعيان. أعرف كيف يفكر هؤلاء في الفضاء الخاص، وكيف يعلنون عن بعض ما يعتقدون في الفضاء العام. عاشرتهم عن قرب، وأعرف طريقة التلون والتبدل التي تتوسل التورية والتلبيس؛ في حالة صدق الورع!، وتتوسل الكذب الصريح والنفاق العلني؛ في حالة اللعب على المكشوف، ليس مع الناس، وإنما بالدرجة الأولى مع الذات. لهذا، عندما بدأ بعض رموز الغفوة يخضعون لمتطلبات المرحلة؛ فيتشحون بأردية السماحة والانفتاح والتيسير، بل وأحيانا يُصرّحون بإدانة الإرهاب(ولو بأساليب مراوغة، لا تدفع بالعجلة إلى الأمام، وإنما تضع العُصيّ فيها؛ والتي هي من نوع: لكن، ولعل، وربما، وقد يكون...إلخ مراوغات التبرير الخفي)، اغتر بعض الباحثين بهم، وتصور بعض المراقبين أن خطاب الغفوة يمكن أن يقود عملية الانفتاح التدريجي؛ كما قاد من قبل عملية الانغلاق، وأن التعامل معهم ومع خطابهم لا بد أن يكون من مبدأ: وداوني باللتي كانت هي الداء؛ لكونهم يتوفرون على الشرط الجماهيري الذي يكفل لهم توجيه الأتباع من وإلى! القاع. طبعاً، هناك من كان يعرف أبعاد الخدعة، ولكنه كان يرى أن خطابهم الذي يتمسح بالاعتدال ظاهرياً يمكن توظيفه كضرورة مرحلة؛ لا أكثر ولا أقل. فمن يرى هذا الرأي ؛ يقول بكل ثقة : لا تهمنا مقاصد هؤلاء، بل ولا الألغام التي يبثونها في ثنايا خطابهم؛ لأن جماهيرهم الغوغائية لا تستطيع العثور عليها (الألغام) بسهولة، ويؤكد من يرى هذا الرأي على أن لا يهم كونهم مُخادعين طامحين طامعين، أي لا يهم ما يريدونه حقاً، المهم هو ما يفعله خطابهم في المتلقي الغفوي البائس، الذي لا بد أن تتزعزع قناعاته عندما تلاحق وعيه اضطرابات هذا الخطاب. لم أستطع الاقتناع بهذه الرؤية المبنية على (التخادع) بين محورين من محاور الصراع الثقافي والمجتمعي. كنت أرى أن ترك الرمز الغفوي يُمرّر خداعه؛ بزعم أننا نخدعه بتمرير رؤانا من خلاله، ليس إلا سقوطاً أخلاقياً؛ لا بد أن يتبعه سقوط معرفي بالضرورة. ولا يمكن بحال أن يتأسس وضع مجتمعي سليم على أرضية أخلاقية ومعرفية متزعزعة. فالمكونات الأساسية للمجتمع، من مادية ومعنوية، لا يمكن أن تعمل وتنتج ما يسهم في مسيرة البناء الحضاري؛ في حال كون بنية العلاقات التي تحكم هذه المكونات مضطربة وغير مستقرة، بل وقابلة لاحتواء بُنيّات متضادة ومتنافرة، تعرقل كل واحدة منهما عمل الأخرى؛ لتتنتقل المسيرة بفعل هذا الاضطراب من فعل التعمير إلى فعل التدمير. كنت ولا أزال أرى أن انتقال الداعية أو المفكر من حالة التطرف إلى حالة الاعتدال ليس عملاً دينياً فحسب، أي ليس توبة ذاتية، وإنما هو أيضا عمل ثقافي وديني واجتماعي وسياسي. وتبعا لذلك؛ لا يكفي أن يجترح الداعية أو المفكر الغفوي خطاباً جديداً متسامحاً؛ في الوقت الذي يسكت فيه عن خطابه القديم المتطرف، وكأنه لم يكن، ولم تتأثر به عشرات الألوف من العقول المسلوبة لخطاب الغباء الغفوي. تاريخك يحكمك؛ إن لم تحكمه. فما لم تتصرف في تاريخك تهذيباً وتشذيباً ونقضاً وتفكيكاً فهذا يعني أنك لا تزال واقعاً في أسره؛ حتى وإن توهمت أو أوْهمتنا بغير ذلك. إن الداعية الغفوي الذي مكث أكثر من خمسة عشر عاماً يؤسس للتطرف والتزمت، ويمهد الأرضي لاستنبات التثوير الإرهابي، لا يجوز أن يخدعنا بأن يلتقط لنا هوامش من فقه التيسير، وينثر بشاعرية بلهاء دعاوى المحبة والإخاء، بينما يصمت صمت القبور عن خطابه القديم، عن ذلك الخطاب المتطرف الذي لايزال فاعلاً، والذي يتجنب الإشارة إليه بأي نقد، حتى ولو بمحض اعتذار عابر؛ مع أنه خطاب أجرم في الواقع كما أجرم في الوعي، وقاد كثيراً من الأبرياء إلى بؤر الصراع العالمي، مدفوعين بخطاب التثوير الإرهابي، فتركهم بعدما تربع على عرش ثرائه وجاهه ما بين قتلى وجرحى ومُطاردين، ومن نجا منهم فإلى المعتقلات والسجون، أو إلى منافي الوعي، حيث يجترون أزمنة الضياع. إن هذا وأمثاله من عَرّابي الخطاب المتطرف لا يأتون ما يأتونه عفواً، وإنما يتعمدون الإبقاء على خطابهم الأول فاعلاً في الواقع، وشاهداً على براءتهم من الاعتدال الحقيقي عند رفقاء الدرب من رموز الخطاب المتطرف. لا يريدون أن يتحلل خطابهم الأول، ولا أن يتحوّل، ولا أن يندثر، بل ولا أن يُنسى، وخاصة في إطار دائرة المتطرفين الذي يضبطون شريعتهم على إيقاع درجة الولاء للتطرف. إنهم لا يسمحون بتفكيك خطابهم القديم؛ لأنهم يريدون أن يبقى(التطرف) كحالة جاهزاً تحت الطلب؛ لمساومة هذا؛ ولتخويف ذاك، في حالة (تخادع) مُتشبّعة بكل ملامح العبثية التي تتربّح بالتَّدين المزيف؛ من أجل تسويق المجد الشخصي لبضعة أفراد، لا يُستبعد أن تكون سبقت لهم بيعة للنظام الخاص! لقد أصبح واضحاً للعيان طبيعة هذا السياق الإخواني الذي يتفاعلون معه وينفعلون به. الأمر لا يقتصر من حيث درجة الوضوح على التوافق بين هؤلاء وأولئك على ميكافيللية دينية فاقعة الألوان، تحكم مسيرة التحوّل وطبيعة التلوّن، وإنما على ما حدث ويحدث من تصريحات وممارسات، محكومة كما هو واضح بمؤشرات الصعود الإخواني في العالم العربي. الإمساك بالعصا من الوسط، سياسة إخوانية، بل تدين إخواني، يدعي الإخوان أنها أثبتت نجاحها الباهر، بينما ندعي أنها أثبت فشلها الذريع. إن من يقرأ تراث الإخوان، ومن يستقرئ مسيرتهم العملية، يجد أنهم متطرفون أشد ما يكون التطرف، و في الوقت نفسه معتدلون أشد ما يكون الاعتدال. لديهم، لا تصنع الأفكار متعالية على ظروفها، بل إن كل قول وكل سلوك له مكانه المحدد، وزمانه المحدد، وظرفه الخاص. ورموز الغفوة لدينا ليسوا بدعاً من هذا، فهم في البداية وفي النهاية منتج إخواني، ولكن بمكونات تقليدية، لا تزال عقائدياً مغروسة في تربة منظومة التقليد. ومن ثم، فإن المراوحة بين التطرف والاعتدال وفق ما تقتضيه الظروف، لا ما تقتضيه القناعات الحقيقية ليست إلا آلية من آليات العمل الديني/السياسي للإخوان. الرموز الغفوية لدينا لا يتبرأون من هذا(الذكاء) الإخواني، بل يعتقدونه، ويُشيدون به سرا، حتى وإن كانوا يتجاهلونه علانية. ولقد أقنعتهم التحولات التي تجلّت فيما يُسمى ب(الربيع العربي) أن الاحتفاظ بالخط الإيديولوجي المتشبع بالثورية الإسلاموية ضروري لممارسة الفعل السياسي. فالسياسة لا بد لها من أقنعة، ومن الذكاء السياسي أن لا تمزق الأقنعة التي استخدمتها في مرحلة ما؛ لأنك قد تحتاجها، بل حتماً ستحتاجها في يوم ما. وبذكائك؛ يمكن أن تحتفظ بها بعيدة عن الأعين، يمكن أن تشتت الانتباه بقناع جديد، ولكن لا تُتلِف القناع/الوجه القديم لمتطلبات المرحلة الراهنة التي قد تكون مجرد مرحلة عابرة. وطبعاً، لا تهم هوية الوجه الحقيقي الذي ربما يتحول بذاته في ظرف ما إلى قناع، أو إلى قناع لقناع! إذن، كان خطاب الاعتدال بالنسبة للغفوي ضرورة مرحلة، كان قناعاً لمهمة خاصة في زمن خاص. فتهمة الإرهاب كانت تلاحقه منذ منتصف التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم. وزادت قرائن الاتهام حضوراً ووضوحاً فيما بعد الحادي عشر من سبتمر؛ إلى درجة تصريح بعض نشطاء القاعدة بالعلاقات الوطيدة التي تربطهم برموز الغفوة، كعلاقة بين رموز يلبسون قناع العِتاب الأبوي، ومُريدين يشتكون من تبخر شجاعة الآباء. إن الاعتدال المزعوم لم يكن خطاب قناعة، وإنما كان خطاب/ قناع مرحلة. فخلال السنوات العشر الماضية، كانت الحاجة ماسة إلى التمظهر بلغة الاعتدال. لأنه لم يكن ثمة خيار؛ خاصة بعد أن فشل خيار الصدام، واقتنع العالم كله بضرورة تجفيف منابع الإرهاب، بما في ذلك المؤسسات الداعمة مالياً، والوسائط التواصلية إعلامياً وتثقيفياً، فضلا عن ضبط حرية التنقل، وتحديد خيارات اللجوء السياسي التي كانت متنفساً لكثير من الإرهابيين بدعوى تعرضهم للاضطهاد. اليوم، وبعد تصاعد نفوذ الإخوان في أكثر من بلد عربي، لم يعد رموز الغفوة لدينا بحاجة إلى التمسح بخطاب الاعتدال. اليوم، ظهر الاستقواء بالربيع العربي الذي هو كما يرى كثيرون ربيع إخواني. اجترأ هؤلاء بعد فترة خنوع وخضوع وصرحوا بالدفاع عن المعتقلين المتورطين بالإرهاب صراحة، ونافحوا عنهم بيافطات حقوقية تتوسل المفردات المدنية والشرعية في آن ؛ فبدا المز الغفوي وهو يتحدث عنهم كأنما يتحدث عن سجناء رأي أبرياء. بل لقد نفذ صبر بعض الحمقى منهم، وصرح بما كتمه لسنوات وسنوات، فأكد أن أعضاء تنظيم القاعدة: " ليسوا من المتساهيلن في التكفير... وليسوا من المتساهلين في الدماء"!. وهي تصريحات لم يكن ليجرؤ هؤلاء على التصريح بها قبل أن يعدهم الزمن الإخواني بما هو أكبر من حجمهم بكثير، إذ بات يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. هذا ما اتسعت له المساحة هنا. وفي المقال القادم سنحاول مقاربة بعض مقولات رموز الغفوة وتلاميذهم التي تحولوا بها من معتدلين إلى صرحاء في الدفاع عن الإرهاب. يتبع